Author

ريما صالح النيف.. الرحيلُ للانبعاث

|
* إهداء: إلى روح ريما بنت الثامنة أميرة العطاء، طفلة من بلادنا قدمت للإنسانية أعظم الهبات، عندما منحت النفوس أغلى ما تحتاج إليه. ريما الطفلة التي ودعت أباها حبيبها ومُلهمها ورجل كل أحلامها وهي تـُخرج رأسَها الصغير من صفِّ المسافرين وتلوِّح له.. وكان التلويحُ الأخير. لم يرها حيّة بعد ذلك. ولكن.. تزوره كل يوم من خلال سبع أنفس. كانت ليلةُ الأحد الماضي بمنتدانا "أمطار" في الرياض، ليلةٌ ولا كل الليالي.. ليلةٌ أضاءتها وجوهٌ شابةٌ، نضرةٌ، متحمِّسةٌ، ومحبّةٌ، مثقفةٌ، ومتطوِّعة. جاءني صديقي الشابُ اللامع "مفيد النويصر"، وكان قد تطوّع برغبةٍ وإعجابٍ ليكون المستشارَ الإعلامي لحملةٍ شبابيةٍ أسّستها طالباتُ وطلاّبُ كليات الطب في جامعة الملك سعود، وبدأت تعمّ كل كلياتِ جامعات المملكة. وللنقصِ المريعِ في الإمدادِ التبرعي بالأعضاء، عزموا أن يكونوا عوناً لهؤلاء المرضى الذين هم آلافٌ مؤلفةٌ من الأرواح التي تكابدُ شقاءَ المعاناة من مضاعفات توقف عضوٍ حيويٍّ في أجسادهم، أو أنه في طريقه للوقوف الأخير.. فعملوا على استنهاض حركةٍ كبرى تحت عنوان: "ومن أحياها.." لتعم البلادَ للتوعيةِ في أهمية التبرع بالأعضاء عند الأحياءِ حين، لا قدّر اللهُ، يحين وقت عوض أن تضيع الأجزاءُ الحيوية تحت الترابِ، إذا هي تُحيي أنفُسَاً فوق التراب. طلب منا السيد النويصر أن نحتضنَ هؤلاء الشباب والشابات، وقلت له: "يا مفيد.. ومن نحن حتى نحتضنهم؟ هم الذين يحتضنون الجميعَ بهذا العمل التطوعي السامي". وحضر طيِّبون من صفوة القوم واستمعوا لما قاله الشبابُ عن حركتهم الرفيعة. أما ردود الفعل فكانت فوق كل التوقعات، فالمستشارُ الدكتور "توفيق السويلم" رئيس مجلس دار الخليج للبحوث والاستشارات، من أرقى دور الاستشارةِ في البلاد، قدّم لهم خبراتِ شركته مجاناً في التأسيس المؤسسي واللوائحي والمالي، وهي دراسةٌ تقتضي مئات الآلاف من الريالات، وقدّم لهم حملة تبرعية كبرى سيجنون منها المدَّ الوفير ـ بإذن الله ـ.. ووضع الدكتورُ سعود المصيبيح كل إمكاناته واتصالاته العالية تحت تصرف الشباب، ووعد شابٌ معروف يشرف على أكبر منتدى إلكتروني عربي أن يعمّم شارات حملتهم في المنتديات والمواقع والمدوّنات.. والأستاذ المثقف "سهم الدعجاني" سهّل لهم السبلَ للالتقاء بوزير التعليم ونائبه في سبيل العمل على مذكرةٍ تفاهم بينهم وبين الوزارة. والأستاذ "صالح الحمد الخنيني" مهّد لهم إجراءات الاعتراف الرسمي، ويلتفت إليَّ ويقول: "(أمطار) اليوم فعلاً.. أمطرتْ!" على أن هذا ليس كلّ شيءٍ.. ففي تلك الليلةِ المزهرة بأجمل وجوهٍ تُحِبُّ أن تقع عليها عيناك، بقيتْ المفاجأة الكبرى، والأجملُ، والأروعُ، والأمثلُ.. ريما. ريما التي لم يبقَ واحدٌ في المنتدى إلا وأتاح الدموعَ.. دموعٌ تغسل الأرواحَ المُثقلة.. ما قصة "ريما" ملاك تلك الليلة؟ كنتُ قد وصلتُ "أمطار" متأخراً دقائق لأمرٍ مسبق، فرأيتُ رجلاً صاحبَ سمْتٍ صامتٍ ومتأمل، وكأنه في يقظتِهِ انتقلَ إلى عوالم أجمل وأرحب وأسمى، حتى أني وأنا أقتربُ منه، خفتُ أن أربك سياحته في عوالمِهِ المضيئةِ البعيدة.. ولكنه فجأة يقومُ ويرحّبُ، وشعرتُ أنّ الكلمات تخرج منه مُفعَمةً، وقوية.. وصوتـُه يحمل رنّة لا تحملها بقية الأصوات.. رنة صوتٍ بكى كثيرا، وأنشدَ كثيراً.. وراجعَ اللهَ كثيرا. الرجلُ اسمه: صالح النيف، بلدته: الرّس، القصيم. وظيفته: معلم لغة عربية.. أهم صفاته: أبٌ لابنته، وهو يقول، ويزيدُ ويعيدُ، أن ابنته عشقه الأول والباقي طالما تجاوبَ النـَّفـَسُ في صدرِه، وابنته اسمها "ريما"، و"ريما" أميرةٌ ملائكية عشقتْ أباها وتولهَتْ بهِ، كما تولـّه هو بها. ثمّ، آهٍ من ثمّ.. لا، خذوا "القصة-العبرة" من الأوّل.. كحكمةِ شهرزاد الأثيرة: "إنها عِبْرَةٌ تـُخـَطّ بالإبر، على مآقي البصَر، لتكونَ عِبرةً لمن اعتبَر". دار البرنامجُ وقدّم الشبابُ ما عندهم بذكاءٍ وأناقةِ تقديم، وبمنطقٍ سليم.. حتى جاءتْ مفاجأتُهم الكبرى: أبو ياسر.. أو، أبو ريما. "ريما" بطلةُ البطلاتِ، وأميرةُ الأميراتِ، قدّمتْ أجملَ ما يرفع الإنسانية لذرى معانيها، عندما تقدِّم الإنسانيةُ للإنسانيةِ أعظمَ الهبات.. "ريما" رحلت من دنيانا هذه، ولكنها بفضل المولى، ثم بفضل موافقة والديها، شفع الله لهما بابنتهما، بيننا الآن سبعة أنفسٍ تنـسَّمَتْ رحيقَ الحياة العبـِق بعد أن كانوا يجاهدون للبقاء. ريما هي واحدةٌ من أعظم المانحين الواهبين على الأرض. لذا عمَّ هذا الوجومُ الروحاني، ودارتْ سحابةٌ من العواطفِ الخفـّاقةِ فوق رأس كل من حضر.. وتجمع الدمعُ فغـُشِيَ البصر. وبدأ الأبُ، الإنسانُ الكبيرُ، في الحديث.. حكى لنا معاناة ريما، والتناول الطبي البطيء والخاطئ، حتى قدّر اللهُ أن تُصابَ بالسكتةِ الدماغية، ويقول: "ولما عُرض عليَّ التبرع بأعضاء ريما لمحتاجين، أحسستُ براحةٍ نفسيةٍ وانتشاءٍ روحيٍّ فوقانيٍّ كبير، فريما لم تكن بنتي فقط، كنتُ أعشقها، كانت كل حياتي، كانت صديقتي، وحبيبتي، وكانت دمَ قلبي الذي يضخّ في وجودي.. لذا كان لا بدّ أن تكتملَ الرسالة لريما وأن تستمر عظمتُها، وأن أراها براصدي القلبي في مَن منحتهُم ريما أعضاءَها.." وبنتٌ اسمها خلود، منحتها ريما كليتها فعادت صبية زاهرةً من جديد، وخلود الفتاة اليانعة تهاتف أمَّ ريما وأباها كل يوم.. فتنزل عطاءات ريما متوهجةً بنسغ الحياةِ إلى قلبـَيْ والِدَيها حيث سكناها الآمن الأبدي.. قلبان لن تخرج ريما من أريكتيهما أبدا. يتابع أستاذُ اللغة العربية، بصوتٍ متهدّج رائق فصيحٍ سليمِ الحركات، لا توقفه إلا شرقه الدمع بين وقتٍ وآخر: "أما أمّها، زوجتي، شريكة آلامي ورضاي، تلك السيدة العظيمة التي تعدى حبـُّها من ابنتها قطعة كبدها، إلى المحبة الإنسانية الكبرى.. فلم تحتاج موافقتًها للتبرع بأعضاء ريما إلا إلى رفرفة رموش دامعةٍ لعشر ثوان لتومئَ برأسِها بالموافقة.. محمـَّلةً ببسمة الأملِ والفقدان، و.. شجاعة الإيمان". فهل نقول ماتتْ ريما؟ أم نقول إنها عاشتْ سبع مرات؟ لذا لم يكن غريباً أن يقترح الجمْعُ أن يكون اسمَ ريما راعياً روحياً للحملة.. ريما.. ريما.. ولكن ينهزمُ الكلام!
إنشرها