Author

القانون ـ الحوادث ـ عقود المقاولات

|
من المعلوم أن عقود المقاولات الوطنية والدولية باعتبارها عقوداً تبادلية ملزمة للجانبين تخضع لقاعدة عامة مفادها أن كل طرف من أطراف العقد يلتزم بالوفاء بما تعهد به في مواجهة الطرف الآخر، فلا يستطيع أن يتخلص من تنفيذ التزاماته بحُجة أن هذا التنفيذ مرهق له أو يكلفه أعباء مادية غير عادية، إذ إنه من المفترض أن هناك مفاوضات تمت مسبقاً بينه وبين المتعاقد الآخر، وكان باستطاعته أن يفرض ما يشاء من شروط وأن يناقش الشروط المفروضة من الطرف الآخر. والحقيقة أن تطبيق هذه القاعدة العامة يبدو أمراً سهلاً ولا يثير صعوبات عملية في مجال العقود الفورية؛ حيث يستطيع كل طرف من أطراف العقد أن يقدر موقفه في الحال ولا تكون لديه إمكانية للاحتجاج بوجود حوادث أو ظروف استثنائية عامة مرهقة له، أما في العقود المستمرة التي يستغرق تنفيذها مدة طويلة من الزمن فإن احتمال تعرض أحد أطراف العقد لظروف استثنائية عند تنفيذه تختلف عن تلك التي كانت سائدة وقت إبرامه لهذا يصبح تنفيذ التزاماته أمرا مرهقا وشاقا إن لم يكن مستحيلا في بعض الأحوال ويهدده بخسارة لم يكن يتوقعها وتتجاوز الحد المألوف مثال ذلك أن يتم إبرام عقد مقاولة لتنفيذ مشروع أعمال إنشائية بين صاحب العمل ومقاول، ثم تطرأ ظروف أو حوادث استثنائية عامة، كحالة حرب أو أزمة مالية أو اقتصادية، كما حدث في الأشهر الماضية من انعكاسات للأزمة المالية العالمية، ترتب عليها ارتفاع أسعار مواد البناء كالحديد والأسمنت وغيرها إلى أضعاف أثمانها وقت إبرام العقد، الأمر الذي يجعل تنفيذ هذا العقد مرهقاً للمقاول ويسبب له خسارة فادحة. لهذا يبرز سؤال مفاده: ما أثر الظروف الاستثنائية العامة في عقود المقاولات الوطنية والدولية؟ أي ما أثر تلك الأزمة في تلك العقود؟ الواقع أن بعض القوانين العربية والأجنبية تتضمن نصوصاً تواجه تلك الحالة كالقانون المصري والأردني والعراقي والسوري والإماراتي؛ حيث تمنح للقاضي ناظر القضية الصلاحية الكاملة في إعادة النظر في شروط العقد بعد تحقق الظروف الاستثنائية العامة، فيوازن بين مصالح الطرفين لتحقيق العدالة. فهذه القوانين تعطي للقاضي صلاحية إعادة التوازن الاقتصادي في العقد، بأن يخفف من الالتزام المرهق إلى الحد المعقول، إن اقتضت العدالة ذلك. ومن ثم فإنه في عقود المقاولات الوطنية والدولية يتمتع القاضي بصلاحية واسعة في التخفيف من التزامات المقاول إذا ثبت أن هناك حوادث استثنائية عامة ترتب عليها ارتفاع أسعار مواد البناء وأجور العمالة وغيرها. ولم تكتف هذه القوانين بالنص على إمكانية تطبيق نظرية الظروف الاستثنائية العامة على جميع العقود بل إن فريقاً منها يتضمن نصوصا خاصة بعقود المقاولة؛ فتفرق بين نوعين منها: النوع الأول: العقود المبرمة بمقتضى مقايسة على أساس الوحدة: ففي هذا النوع من العقود إذا تبين في أثناء تنفيذ العقد أنه من الضروري لتنفيذ التصميم المتفق عليه مجاوزة المقايسة المقدرة مجاوزة كبيرة وظاهرة، فيجب على المقاول أن يخطر في الحال صاحب العمل بذلك ويبين له مقدار ما يتوقعه من زيادة في الثمن، فإن لم يفعل سقط حقه في استرداد ما جاوز به قيمة المقايسات مع النفقات، أما إذا كانت المجاوزة التي يقتضيها تنفيذ التصميم جسيمة، فيجوز لصاحب العمل أن يتحلل من العقد ويوقف التنفيذ، على أن يكون ذلك دون إبطاء، مع إيفاء المقاول قيمة ما أنجزه من الأعمال مقدرة وفقاً لشروط العقد. النوع الثاني: عقود المقاولات المبرمة على أساس تصميم متفق عليه لقاء أجر إجمالي: ففي هذا النوع من العقود لا يجوز للمقاول أن يطالب بأية زيادة في الأجر يقتضيها تنفيذ هذا التصميم، أما إذا حدث في التصميم تعديل أو إضافة برضا صاحب العمل فيراعي القاضي الاتفاق الموقع بين الطرفين بشأن هذا التعديل أو تلك الإضافة. ويستند إعمال نظرية الحوادث الاستثنائية في القوانين الوضعية إلى عدة أسس منها؛ شرط تغير الظروف، وهو شرط ضمني مفاده نفاذ العقد ما دامت ظروفه الاقتصادية لم تتغير، أما إذا تغيرت تغيراً جوهرياً حيث يؤدي التمسك بالتنفيذ الحرفي للعقد إلى الإجحاف بحقوق أحد أطرافه وجب تعديل العقد لإزالة عدم التوازن الاقتصادي في العقد الناتج عن التغير الاستثنائي في الظروف الاقتصادية؛ كما يستند إعمالها إلى مبدأ تنفيذ العقود بحُسن نية، وإلى فكرة الإثراء بلا سبب، وإلى فكرة السبب المقابل ومفادها أن فقدان التوازن الاقتصادي بين الالتزامات المتقابلة في العقود التبادلية نتيجة ظروف طارئة غير متوقعة يؤدي إلى فقدان أحد هذه الالتزامات المتقابلة صلاحيته لأن يكون سبباً للالتزام المقابل. ونرى أن هناك حاجة ملحة في الوقت الراهن لوجود قواعد نظامية محددة تسري على عقود المقاولات الوطنية والدولية في السعودية، خاصة بعد أن ألقت الأزمة المالية العالمية بظلالها على تلك العقود، ما ترتب عليه التأخير في تنفيذ عديد من المشاريع الإنشائية وتوقف عديد من المقاولين العموميين والمقاولين من الباطن عن الاستمرار في التنفيذ ورفع دعاوى قضائية أمام الدوائر التجارية في ديوان المظالم . ولما كانت المرجعية أساسية للقضاء السعودي هي أحكام الشريعة الإسلامية الغراء فإنه يمكن للقضاء إعمال مبادئها الكلية مثل مبدأ لا ضرر ولا ضرار، ومبدأ الضرر يزال، ومبدأ عدم التعسف في استعمال الحق، لإعادة التوازن الاقتصادي في عقود المقاولات وغيرها من العقود مستمرة التنفيذ، إلا أن وجود قواعد نظامية محددة ومفصلة أمر أضحى ضرورة، لأن ذلك يتفق مع توقعات المتعاقدين ويجعلهم على بينة عند إبرام العقد من أنه عند حدوث ظروف استثنائية عامة فيمكن إعادة النظر في التزامات أطرافه، كما أن ذلك من شأنه أن يسهل مهمة القاضي، خاصة أن هناك توجهاً نحو تقنين الأحكام الشرعية بوضع نصوص نظامية منضبطة ومحددة يطبقها القضاء على المنازعات المعروضة عليه.
إنشرها