موسم الهجرة إلى الآخرين

شعرت بحزن متثاقل كما هي هذه الأيام بدخول نجم العقارب (سعد بلع)، حيث تتقلب الأمزجة مع تقلب الأجواء بسبب الفارق الواضح في انخفاض درجات الحرارة وتباينها ليلاً ونهاراً، الإحساس بالحزن لسببين الأول وهو الأقل أهمية أنني لا أحب (الصوارف) كما يسميها العرب رحيل موسم ودخول موسم وما يصحبه من تغيرات وأتربه ورياح نشطة مثل هذه الأيام نهاية موسم الشتاء والتهيئة لقدوم الربيع لكن الحزن الأكبر والسبب الثاني هو رحيل الروائي والقاص السوداني الطيب صالح وهي أيضاً لأسباب عروبية وإنسانية وثقافية وزوايا دفينة شخصية لأنني تفتحت على هذا النوع من الأدب على بداية تشكل الوعي التاريخي والحضاري والثقافي في داخلي بعد قراءتي رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) ليس من زاوية قصصية فقط وإنما من بعد حضاري وتاريخي .. فالرواية صدرت عام 1966م لكنني وجيلي تعرف عليها من كتاب رجاء النقاش الذي دفع بها إلى أبواب الشهرة. وتلقفناها في أوائل الثمانينيات الهجرية.
لن أحكي سيرة ذاتية لكننا عندما كنا على مقاعد الدراسة الجامعية وعندما وطئت أقدامنا الأراضي الأوروبية لأول مرة وكلما تكررت الزيارة شعرنا بمشاعر بطل الرواية نفسها مصطفى سعيد أو الطيب صالح نفسه عندما تضاد في داخله حبه وكرهه للغرب لأن الغرب ليس كله خيراً وليس أيضاً كله شراً، وأن بلاد الطيب صالح السودان تعرضت للاستعمار الغربي عندما تم تقاسمها مع عدد من البلدان والأراضي التي كانت تبعيتها للدولة العثمانية. أو لحكومات محلية. كانت لدينا مشاعر متضادة ما بين حبنا للغرب الثقافي والحضاري والتكنولوجي وكرهنا لسياساته الاستعمارية ودعمه لإسرائيل اللامحدود وخاصة القوات الأطلسية حينها تحاصر بيروت بعد اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982م، فكان لدينا مشاعر مختلطة بالنسبة للغرب مثلما هي لدى الطيب صالح إن كان في موسم الهجرة مصطفى سعيد أو الطيب .. أما حنيني الخاص مع موسم الهجرة تلك المفردات البيئية في لندن أو السودان.. والطيب يغوص في بيئات السودان ويصف رائحة الأرض والناس والأشجار وماء النيل ويرسم الألوان الحارة لإفريقيا الاستوائية إلى هذا التوصيف البيئي يجذبني بمشاعر فياضة تجاه تلك البيئة التي عشت فيها جزءا من حياتي في القصيم، حيث تداخلت الواحات الزراعية بالرمال وانغمست خبوب بريدة وقيعانها بالرمل والحافات الصخرية وشكل نفود الغميس بكثبانه الطولية والقبابية والهلالية ثقافة (رملية) لمدن بريدة وعنيزة والبكيرية والبدائع كان الطيب صالح يصف النيل والنيلين وأنا غارق في فياض وادي الرمة ونخيله اليابسة وتعرج مجراه اليابس الذي شكل في داخلي ثقافة الأودية الجافة.. الطيب صالح فتح عيني مبكراً على العلاقة الحميمة ما بين الإنسان والبيئة وبين الحضارة والسياسة. وإذا كان الطيب صالح كتب ورجاء النقاش فجر العمل فإنني أصبحت رهينة البيئة والناس والتاريخ ـ رحمك الله ـ يا طيب صالح رحمة واسعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي