Author

البيزنطيون العرب!

|
تروي بعض المصادر التاريخية أن ليلة سقوط بيزنطة في أيدي العثمانيين حفلت بمؤتمر ضخم ضم القساوسة والمفكرين في الدولة البيزنطية في الوقت الذي كانت فيه الجيوش العثمانية تدك أسوار دولتهم. لم يكن ذلك المؤتمر من أجل إيجاد مخرج من المشكلة التي ستقضي على الدولة ولا من أجل إيجاد طرق للتفاوض مع قادة العثمانيين لحقن دماء الشعب البيزنطي ولا من أجل التوافق على الاستسلام أيضاً بل كان موضوع ذلك الاجتماع التاريخي مختلفاً تماماً. لقد كان الجدل محتدماً بين القساوسة والحكماء في بيزنطة حول ماهية الملائكة وإن كانت إناثاً أم ذكوراً متناسين أن دولتهم باتت على شفا الاجتياح من أعدائهم, فقد كان الخلاف حول جنس الملائكة أهم لديهم من سقوط بلادهم في يد الجيش العثماني, حتى باتت قصتهم هذه مضرباً للمثل في الجدل العقيم ليُطلق عليه لاحقاً (الجدل البيزنطي)! تذكرني هذه القصة بالكثير من النقاشات التي لاطائل منها في الأوساط الثقافية والاجتماعية والإعلامية السعودية وأجزم أن الكثير منكم يعرفون عديدا من القضايا الجدلية التي يقتحمها أو يقحم فيها الناس دون أن يحصدوا أي نتيجة منها, وحتى إن كانت هناك نتيجة مرتجاة فهي لا تتناسب أبداً مع حجم الجدل الذي سبقها للتوصل إليها. ففي مجتمعنا قد يدخل أحدنا إلى مجلس أو منتدى ويخرج منه بعد معركة كلامية أو حتى عراك يدوي بسبب نقاش حول إن كان النادي الكروي الفلاني يستحق البطولة الفلانية أم أنه حصل عليها لأسباب خارجية, وقد يكون هذا الشخص نفسه لديه من المشكلات والقضايا في حياته ما تعجز عن حمله الجبال, لكنه يعمد إلى تجاهلها بينما لا يستطيع أبداً تجاهل نقاش فوضوي لا جدوى منه ! وقد يعمد أحدهم إلى تأليف مصنفات طويلة وبحوث تستهلك سنوات من عمره, في موضوع لا يهم أحداً ولا توجد أي جدوى منه, وأذكر على سبيل المثال أن أحد الأصدقاء أمضى وقتاً طويلاً لتأليف بحث متشعب خاص بمسألة هامشية في نص شعري لأحد الشعراء الجاهليين, وبذل في سبيله الغالي والنفيس في الوقت الذي كان فيه لايجد قوت يومه فقد كان بلا وظيفة تدر عليه دخلاً يعينه على توفير متطلباته الأساسية, وكم كانت شراسة ذلك الصديق كبيرة عندما يحاول أحدنا لومه أو حتى مناقشته في موضوع بحثه الذي لم يسمع به أحد غير أصدقائه! ولو مر أحدكم اليوم على مكتبة تفيض بالمؤلفات العربية سيصدم بكون أغلب تلك المؤلفات تدور في فلك (الجدل البيزنطي), وليس من الغريب أبداً أن يخرج مؤلفوها في وسائل الإعلام لندب حظهم واتهام القاريء العربي بالكسل والجهل, لأن مؤلفاتهم بقيت على أرفف المكتبات ولم تزدد إلا ثقلاً بسبب الغبار المتراكم عليها! لكن مع هذا سيجد بعضهم فئة ضئيلة من القراء تشاركهم الجدل نفسه وهذا أمر جيد بالنسبة لبعض الصفحات الثقافية التي ستتحول إلى ساحة للعراك في تلك المواضيع, وقد يتطور الأمر وتخرج تلك المعارك من الصفحات إلى ساحات المحاكم بعد أن يتحول النقاش إلى قذائف شتائمية بين المتعاركين, ويستمرالجدل البيزنطي في تكرار نفسه ولكن في أمكنة وأزمنة ومواضيع أخرى كل مرة!
إنشرها