Author

الوقوع في فخ "مصيدة السيولة"

|
عندما يقترب سعر الفائدة من الصفر، وتفتقد السياسات النقدية قدرتها على التأثير، بما فيها قيام الحكومة بإعادة شراء أذونات الخزينة، وخفض الاحتياطي الإلزامي، فإننا في حالة تعرف "بمصيدة السيولة". ذلك أن سعر الفائدة الاسمي يكون صفراً أو قريبا من الصفر. ناهيك عن أن أسعار الفائدة على النقد والسندات تصبح متقاربة جداً ما يجعل المفاضلة بينهما لا يجدي نفعاً. لذا تتراكم السيولة لدى البنوك. وفي ظل انخفاض الأسعار، يحجم الأشخاص والمؤسسات عن الاستثمار، وينخفض الطلب على الاقتراض، بل أن أية سيولة فائضة إن وجدت لدى القطاع الخاص تعود كودائع في البنوك، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من السيولة التي لا تأثير لها في الاقتصاد. وندخل في مصيدة مشتركة لا نعرف الفكاك منها هي فخ "مصيدة السيولة". وحتى لا نستعجل إطلاق الأحكام، ونقول إن المملكة ربما تتجه إلى هذه المصيدة خلال 2009، فإن قراءة سريعة لتجارب مماثلة في الولايات المتحدة واليابان، قد تساعدنا على ذلك، وسيسهم ذلك في قدرتنا على قراءة اقتصاد المملكة خلال سنة 2009، بما فيها السياسات الحكومية التي يجب اتباعها. ففي الكساد العظيم 1929 - 1933، انخفض معدل التضــــخم ليسجل (- 6.7 في المائة) في الولايات المتحدة، ولم تعد الأسعار إلى مستويات 1929 الا سنة 1943. وفي اليابان وصل معدل التضخم في الفترة 1995 – 2005 إلى (-0.2 في المائة). وهي الفترة التي فشلت السياسات النقدية في القيام يأية تأثيرات محفزة للاقتصاد. وفي الوقت الحالي، يبدو أن الولايات المتحدة متجهة إلى المصيدة ذاتها التي وقعت فيها في سنة 1929، فسعر الفائدة اقترب من الصفر (0.5 في المائة)، وبرنامج الإنقاذ يضيف مزيداً من ضخ السيولة التي لا يبدو أنها تجدي نفعاً. فمئات الآلاف من الوظائف فقدت، ومعدلات التضخم في تناقص مستمر. بل إن الكثير من الأفراد والمؤسسات بدأت تحتفظ بالكاش ما أمكن. وفي المملكة تتجه السياسة النقدية إلى خفض سعر الفائدة بشكل متسارع، مع خفض للاحتياطي الإلزامي للبنوك. وكان آخر خفض في سعر الريبو في 23 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، حيث وصل إلى نحو 3 في المائة، وسعر الريبو العكسي إلى 2 في المائة، ووصل الاحتياطي الإلزامي إلى المعدلات المعتادة (7 في المائة). وقد أقدمت مؤسسة النقد على فعل ذلك رغم أن لديها مؤشرات توحي بارتفاع السيولة قبيل اتخاذ مثل هذه الخطوة، حيث أظهرت بيانات مؤسسة النقد أن نمو عرض النقود قد ارتفع في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) إلى 20.2 في المائة مقارنة بنسبة نمو قدرها 19.4 في المائة في أيلول (سبتمبر). ونتوقع مزيداً من الارتفاع في السيولة حتى نهاية كانون الأول (ديسمبر). ويستغرب البعض من ارتفاع فائدة البنوك رغم خفض سعر الفائدة من قبل "ساما"، لكن ما أقدمت عليه البنوك هو أمر طبيعي في ظل أن السيولة التي تقدمها "ساما" للبنوك هي لحث البنوك على الإقراض فيما بينها بسعر فائدة متدن، حيث إن الإقراض بين البنوك عند معدلات الـ(سايبور) كان مكلفاً، مع رغبة المؤسسة في تعويض نقص السيولة من ودائع العملاء، وهي السيولة التي تحتاج إليها البنوك بالفعل لخفض معدلات (الإقراض إلى الودائع) التي تعد مرتفعة حالياً (تتجاوز لدى بعض البنوك 90 في المائة). ولأن البنوك تدفع سعر فائدة أعلى على الودائع، فإنها تضطر إلى رفع سعر الفائدة على الإقراض لزيادة هامش الربحية. ومع انخفاض ربحية الشركات وإحجامها عن التوسع، ينخفض الطلب على الاقتراض أيضاً، مما يفاقم من أزمة السيولة. إن من المتوقع أن ينخفض الإقبال على الاقتراض في سنة 2009 لعدم رغبة القطاع الخاص في مزيد من الاستثمار. بل إن هناك توجها إلى خفض الإنتاج، وخفض النفقات، وتسريح العمالة، مما قد يؤدي إلى مزيد من انخفاض الطلب على القروض. ويصبح البديل للشركات والمؤسسات هو الاحتفاظ بالسيولة وإداراتها كأولوية قصوى على حساب الهدف الأولي السائد والمعروف في تحقيق عوائد وأرباح مجزية. لذا فإن النتيجة الأولى لتفسيراتنا لأزمة "مصيدة السيولة" هو أن سنة 2009 ستصبح سنة "إدارة السيولة"، وليست سنة "تحقيق الأرباح" على حد قول أحد رجال الأعمال البارزين في المملكة. وبعد ذلك كله قد يتساءل البعض .. ما الحل؟ والإجابة عن ذلك ليست بهذه السهولة. إلا أن بعض الحلول قد بدأت في الطرح منذ فترة وجيزة. فخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله أعلن في اجتماع دول العشرين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عزم المملكة على مواصلة الإنفاق بقوة، حيث إنها تخطط لإنفاق ما يقارب من 400 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة، بمعدل 300 مليار ريال سعودي في العام الواحد. وأكد ذلك في عدة مناسبات من أن الإنفاق الحكومي سيستمر بقوة. والسؤال الآن هو كيف يمكن فعل ذلك مع انخفاض أسعار النفط ليصل إلى نحو 43 دولاراً للبرميل في بداية كانون الأول (ديسمبر)، مقارنة بمتوسط 133 دولاراً للبرميل في شهر حزيران (يونيو)، مع وجود أكثر من 1.7 ريال سعودي في استثمارات خارجية. إن من السهولة الإجابة عن ذلك إذا عرفنا أين تستثمر أموال الحكومة في الخارج، وفي أية أصول. فنحن ندرك أن معظمها في استثمارات منخفضة المخاطر مثل سندات الخزينة الأمريكية, الأمر الذي يجعلنا نتساءل هل من صالح الحكومة الأمريكية تسييل تلك السندات وإعادة شرائها من الحكومة السعودية وبالتالي توافر السيولة المطلوبة للإنفاق الحكومي، وما حجم تلك السيولة المطلوبة؟ إن الحكومة السعودية قادرة على سحب أرصدتها من الخارج، خصوصا إذا كانت في شكل سندات حيث إن من صالح – الولايات المتحدة- مثلاً أن تسترد السندات وأذونات الخزانة إذا حل استحقاقها، وإصدار سندات جديدة بسعر فائدة أقل، ناهيك عن أنها ستستدعي بعض السندات للغرض نفسه، لتجنب دفع فائدة أعلى على السندات. من هنا فإن هناك قدرة للمملكة لسحب جزء من موجوداتها في الخارج لتمويل مشاريع البنية التحتية، إضافة إلى ما سيتم تحصيله من مداخيل النفط، ما يجعلنا نطمئن في استمرار الإنفاق الحكومي. فلو افترضنا حالة تشاؤمية حادة في أن أسعار النفط ستصل إلى 25 دولاراً للبرميل كما توقع بنك ميرل لانش، فإن دخل المملكة المتوقع من النفط فقط سيصل إلى نحو 220 مليار ريال في سنة 2009، مقارنة بالسعر الذي تستهدفه المملكة عند 75 دولاراً للبرميل، الذي سيؤمن دخلا قدره نحو 660 مليار ريال. وإذا كانت تقديراتنا صحيحة في أن دخل النفط – في أسوأ الأحوال – سيكون 220 مليار ريال، فإن المتبقي للإنفاق الحكومي سيأتي عن طريق السحب من الاستثمارات الأجنبية، والدخل من القطاعات الأخرى غير النفط، وبذلك نتوقع أن يتجاوز الإنفاق 450 مليار ريال في سنة 2009. وهو مبلغ كاف لمواصلة الإنفاق بزخم قوي. ويجب التنويه إلى أننا يجب ألا نجزع لو ظهرت ميزانية 2009 أو 2010 بعجز حكومي، حيث إن وجود عجز يمول عن طريق السندات قد يكون حلاً مثالياً للحكومة في ظل تدني سعر الفائدة واقترابها من السيولة على (الكاش) النقد . فقد قلنا إن "مصيدة السيولة" هي في أن الاحتفاظ بالأصول في صورة كاش أو سندات يصبح متشابهاً. لذا فإن الحكومة قد تلجأ لإصدار سندات دين عوضاً عن ضخ مزيد من الكاش (النقد) لخفض معدلات السيولة غير المفيدة للقطاع البنكي، حيث قلنا في مقدمة هذا المقال إن القطاع البنكي في حاجة إلى ودائع العملاء وليس إلى سيولة مؤسسة النقد. إن مواصلة إنفاق الحكومة السعودية وقدرتها على ذلك سيكون مشابهاً لما حدث في الكساد العظيم عندما استمرت الولايات المتحدة في الإنفاق الحكومي، ومشابهاً لسياسة اليابان في التسعينيات في مواصلتها الإنفاق الحكومي ليتجاوز 2 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وهذه السياسات الإنفاقية التوسعية لحث الاقتصاد وإخراجه من مصيدة السيولة تتم عن طريق زيادة الطلب على المنتجات والسلع والخدمات، ومع ارتفاع الطلب الحكومي والإنفاق الحكومي على مشاريع القطاع الخاص، ترتفع الأرباح لدى الشركات، وتعود للإيداع لدى البنوك لينخفض معدل (الإقراض/الودائع) إلى نسب مقبولة، ويبدأ الاقتصاد في التعافي. ونتوقع أن تأخذ هذه الدورة والخروج من مصيدة السيولة، ويعود الاقتصاد إلى الاستقرار والنمو الطبيعي خلال سنتين إلى ثلاث سنوات.
إنشرها