شهد عالم العمل تحولات جذرية خلال الأعوام الخمسة الماضية، إذ أدت الجائحة إلى بداية حقبة العمل عن بُعد والعمل الهجين، حيث أصبحت مواضيع كانت تُعد سابقا من المحظورات في مكان العمل، مثل الصحة النفسية وتلاشي الحدود بين الحياة العملية والشخصية، أولويات لأصحاب العمل.
كما أصبح كثيرون يعملون بعد سن التقاعد المتعارف عليه (65 عاما)، ما أدى إلى وجود خمسة أجيال متداخلة في بيئة العمل، كل منها يحمل أساليب مختلفة في العمل والإدارة.
سيشهد العقدان القادمان تغييرات أكثر أهمية، حيث سيكون الذكاء الاصطناعي المحرك الرئيسي لإعادة تشكيل طبيعة العمل.
يؤدي الذكاء الاصطناعي مهام كانت تُسند سابقا إلى خريجي الجامعات الجدد في عديد من المهن، وسيكون له تأثير على دور المديرين، وكيفية قياس
وعلى خلفية ذلك، طلبت صحيفة "وول ستريت جورنال" من خمسة خبراء وممارسين في مجال العمل الإجابة عن السؤال التالي: كيف سيكون مستقبل العمل؟
الذكاء الاصطناعي يؤثر في أساليب القادة
قالت كارا برينان ألامانو، الرئيسة السابقة للموارد البشرية في شركة Lattice والشريكة المؤسسة في People Tech Partners، إن قدرات الذكاء الاصطناعي في القياس ستؤثر على أساليب القادة في تعزيز الأداء. فكل ما يُقاس يمكن التأثير فيه، وهناك ارتباط مثبت علميا بين رفاهية الموظفين ومستوى أدائهم.
بدلا من الاعتماد فقط على البيانات التي يقدمها الموظفون أو استطلاعات الرأي، بحسب ما تقول ألامانو، سنبدأ برؤية مؤشرات آنية تُغطي تجربة الموظف، وسنتعرف أكثر على أمور مثل كيفية عمل الموظف لحظة بلحظة، ومن يتعاون معه لتحقيق النتائج، وما إذا كان للوقت أو المكان تأثير ملموس على الأداء، أو حتى كيف تظهر أنماط التواصل والتأثير بطرق ترتبط بالنتائج.
يركز عديد من مديري الأداء اليوم على بناء حوكمة قوية للذكاء الاصطناعي لحماية بيانات الموظفين وضمان خصوصيتهم. وبمجرد إرساء هذه الأسس، قد يختلف مستقبل العمل تماما.
تحول ديموغرافي يقلص القوى العاملة
من جهته، قال بيتر فاسولو، مدير معهد سياسات الموارد البشرية في كلية كويستروم لإدارة الأعمال في جامعة بوسطن، إن عدد العمال المتاحين في أوروبا واليابان والولايات المتحدة سيقل خلال هذه الفترة، وسيكون التحول الديموغرافي عميقا.
إلى جانب ذلك، سيتناقص عدد الشباب المتاحين للالتحاق بالجامعات في الولايات المتحدة، حتى لو رأوا أن التعليم العالي يستحق الاستثمار.
وسيترتب على هذا التحول الحاجة إلى مزيد من الاستثمارات في المدارس المهنية والحرفية، والحاجة إلى الاستثمار في التدريب القائم على المهارات، وليس على الشهادات.
كما سيزداد التدريب العملي المتخصص. وستتحول الشركات إلى قاعات دراسية. الشركات التي تسعى إلى علاقة أكثر استدامة مع موظفيها ستحتاج إلى نموذج استثماري بدلا من نموذج تعاقدي: سنستثمر في مهاراتكم لتصبحوا محترفين منافسين في مجالكم.
مكان العمل سيتغير جذريا بعد 25 عاما
أما آلان جوارينو، نائب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لخدمات مجالس الإدارة في شركة الاستشارات العالمية Korn Ferry، فيرى أن مكان العمل سيتغير جذريا بعد 25 عاما، حيث يقول إن الموظفون والذكاء الاصطناعي سيعملون ككيان واحد.
صحيح أن الذكاء الاصطناعي سيتولى بعض المهام والوظائف، بحسب ما يقول، لكننا سنرتقي جميعا إلى مستوى جديد من القدرة على اتخاذ قرارات حاسمة وإبداعية. ستبدو فكرة إنجاز البشر للعمل بشكل كامل قديمة الطراز للبعض. المهام التي كانت تستغرق فرقا كاملة وأشهرا لإنجازها، ستُختصر إلى دقائق معدودة، وسيقاس النجاح بمعايير لا يمكننا تخيلها اليوم.
قد تصبح المستويات الإدارية المتوسطة، التي تعد أساسية في هيكل الشركات اليوم، من مخلفات الماضي. سيتغير دور القائد أيضا، إذ سيشرف مباشرة على تعاون الأفراد والأنظمة الذكية. ومع تزايد الاهتمام بالتعاون المباشر، يرى جوارينو أنه بعد 25 عاما، وعلى عكس المتوقع، لن يكون التواصل وجها لوجه ضروريا فحسب، بل لا يقدر بثمن. وسيظل الذكاء العاطفي عاملا مميزا للقادة.
ويقول: "الذين يجمعون بين الذكاء العاطفي والخبرة التكنولوجية هم من سيصنعون المستقبل".
تمكين الكفاءات وتعزيز اقتصاد العمل الحر
من جانبه، يقول رافين جيسوثاسان، الشريك الأول والقائد العالمي لخدمات التحول في شركة Mercer الاستشارية، إن التطورات في الحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي ستمكن رواد الأعمال من إعادة تشكيل الصناعات بجزء بسيط من الموارد التي كانوا يحتاجونها تقليديا.
وبالمثل، سيسهم الانتشار الواسع لأدوات الذكاء الاصطناعي في تعزيز اقتصاد العمل الحر، ما يسهل على الشركات التعاقد مع محترفين مهرة عند الحاجة.
إتاحة أدوات الذكاء الاصطناعي للجميع أدت إلى تمكين الكفاءات من الوصول إلى أدوات أكثر قوة خارج الشركات، وإتقان استخدامها. سيؤدي ذلك، إلى أن يقدم العاملون المستقلون قيمة أكبر من أي وقت مضى، بحسب ما يقول جيسوثاسان.
التوجه نحو أدوار التخصصات العامة
أخيرا، يرى جاوراف جوبتا،المدير الإداري ورئيس قسم البحث والتطوير في شركة Kotter International الاستشارية، أن نمط العمل سيتحول نحو أدوار التخصصات العامة التي تقدر القدرة على بناء العلاقات، والعمل عبر مختلف الأقسام التنظيمية، وإظهار الإبداع في حل المشكلات.
ستصبح ممارسات الإدارة أقل اعتمادا على التخطيط والتنبؤ، وأكثر تركيزا على المرونة. وسيؤدي هذا إلى تقليص أدوار التخطيط الاستراتيجي والتخطيط التشغيلي والتحليلات، وظهور أدوار جديدة في مجالات مثل نمذجة السيناريوهات وتفعيل التغيير. يضيف: "سنشهد أيضا زيادة في الاستثمار في بناء القدرات القيادية على نطاق واسع بين جميع الموظفين، لتمكينهم من الاستجابة السريعة على مستوى مختلف أقسام المؤسسة، وهو ما يتطلبه هذا العصر الجديد المضطرب".

