تشهد فنزويلا خلال السنوات الأخيرة وضعًا اقتصاديًا وسياسيًا معقدًا نتيجة الضغوط الدولية والعقوبات المفروضة عليها، وفي مقدمتها العقوبات الأمريكية التي استهدفت قطاع النفط والتمويل والتجارة. إلا أن التحولات الجديدة منذ عام 2024 و2025 تمثلت في انتقال الضغوط من المجال الاقتصادي التقليدي إلى المجال البحري والأمني، ما جعل حركة الملاحة التجارية أمام تحديات غير مسبوقة. ويأتي هذا في ظل وجود بيئة اقتصادية تعاني تضخما، وتراجع الإنتاج، ونقصا في العملات الصعبة. ومع تصاعد التوترات، أصبحت حركة النقل البحري في فنزويلا عنصرًا حساسًا يؤثر بشكل مباشر في قدرة البلاد على تصدير أهم مورد اقتصادي لها، وهو النفط، وعلى قدرتها على استيعاب الواردات اللازمة للحفاظ على النشاط الاقتصادي الأساسي. أصبحت السفن التجارية التي تتعامل مع فنزويلا معرضة للرقابة أو الاعتراض.
وبناءً على ذلك، اتخذت عديد من شركات الشحن العالمية قرارًا بإعادة تقييم تعاملاتها مع الموانئ الفنزويلية. ونتيجة لذلك، حدث نقص في عدد الناقلات التي تدخل الموانئ، كما ارتفعت تكاليف التأمين البحري، خاصة لأن شركات التأمين عادة ما تزيد أقساطها عند وجود مخاطر جيوسياسية أو احتمالات للاشتباكات.
وتشير تقارير اقتصادية إلى أن بعض السفن التي كانت تنقل النفط الفنزويلي إلى الأسواق الآسيوية اضطرّت إلى اتخاذ طرق أطول وأكثر تكلفة لتجنب المناطق التي تشهد نشاطًا عسكريًا، ما رفع تكلفة النقل وخفّض هامش الربح بالنسبة للعملاء والمصدرين. وترافق ذلك مع خوف من فرض عقوبات ثانوية على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع حكومة فنزويلا، وهو أمر جعل الشركات أكثر حذرًا وترددًا في إبرام عقود طويلة الأجل.
تراجع الصادرات النفطية وتأثيراتها الاقتصادية
تعد فنزويلا واحدة من أكبر الدول من حيث الاحتياطات النفطية المؤكدة في العالم، وتعتمد بشكل شبه كامل على تصدير النفط الخام كمصدر للعملة الصعبة. ومع تراجع حركة الملاحة وتباطؤ دخول الناقلات إلى الموانئ، تحولت الأزمة البحرية إلى أزمة مالية حقيقية. فقد أدى انخفاض عدد السفن إلى تراجع كميات النفط المصدرة، وتأخر وصول شحنات المواد الضرورية لمزج النفط الثقيل، ما أدى إلى تباطؤ الإنتاج نفسه. وبسبب ذلك، واجهت الحكومة ضغوطًا متزايدة لتأمين موارد مالية كافية لتمويل الواردات الضرورية للقطاع الصناعي والغذائي.
هذا الوضع انعكس على سعر صرف العملة المحلية التي فقدت مزيدًا من قيمتها، ما تسبب في زيادة معدلات التضخم وارتفاع أسعار السلع. كما أن تراجع إيرادات النفط أدى إلى صعوبات في سداد الديون وتغطية الاحتياجات الأساسية، بما في ذلك دعم الوقود داخل البلاد ورواتب القطاع العام. ويخشى اقتصاديون من أن استمرار هذه الظروف قد يعمّق الكساد ويؤدي إلى مزيد من هجرة رأس المال والعقول.
التأثير في التجارة العالمية وأسواق الطاقة
لا يقتصر تأثير الأزمة البحرية في اقتصاد فنزويلا فحسب، بل يمتد إلى أسواق الطاقة العالمية. ففي ظل اضطراب إمدادات النفط الثقيلة القادمة من أمريكا اللاتينية، اضطرت بعض الدول إلى البحث عن بدائل، ما أدى إلى تغييرات في هيكل الطلب العالمي. وفي الوقت ذاته، تسبب ارتفاع المخاطر في زيادة تقلبات أسعار النفط عالميًا، إذ باتت الأسواق تتفاعل بسرعة مع أي أنباء تتعلق بالتصعيد العسكري أو فرض عقوبات جديدة.
وتشير التحليلات الاقتصادية إلى أن جزءًا من المشترين أصبح يفضل النفط القادم من مناطق أكثر استقرارًا، وإن كان أكثر تكلفة نسبيًا. وفي المقابل، حاولت فنزويلا تقديم خصومات لعملائها لتعويض المخاطر وزيادة جاذبية خامها، إلا أن ذلك قلل من الإيرادات المتوقعة.
ومن جهة أخرى، انعكست الأزمة على صناعة الشحن والتأمين البحري عالميًا، حيث ارتفعت الطلبات على تغطيات مخاطر الحرب، وهي عادة من أغلى أنواع التأمين.
ردود الفعل الفنزويلية اتجهت إلى استخدام أساليب شحن بديلة مثل "الأساطيل المظللة" التي تعمل تحت أعلام دول صغيرة أو شركات واجهة لتجنب التعقب. إلا أن هذه الأساليب مكلفة وتحمل مخاطر قانونية، وقد تؤدي إلى مصادرة السفن أو فرض عقوبات جديدة.
إضافة إلى ذلك، حاولت فنزويلا تنويع أسواقها عن طريق بيع النفط بعملات غير الدولار، بما في ذلك اليوان الصيني والروبل الروسي، لتقليل تأثير العقوبات المالية. ورغم أن هذه الخطوات قدمت حلولًا جزئية، إلا أن تأثيرها لم يكن كافيًا لتعويض الخسائر الناتجة عن تراجع حركة الملاحة.
السيناريوهات المستقبلية المحتملة
في ظل استمرار التوترات، يمكن تصور عدة سيناريوهات للاقتصاد الفنزويلي وحركة الملاحة. السيناريو الأول يتمثل في احتواء التوترات عبر حلول دبلوماسية تسمح بعودة النشاط التجاري تدريجيًا، وهو ما قد يخفف الضغط على الإمدادات النفطية. أما السيناريو الثاني فيتعلق باستمرار التصعيد، والذي قد يؤدي إلى حصار بحري فعلي يهدد بانهيار اقتصادي أعمق. وهناك سيناريو ثالث يقوم على تنويع الشحن والأسواق لكن مع تكلفة مرتفعة ومخاطر قانونية.
أظهرت الأزمة الحالية مدى هشاشة الاقتصاد الفنزويلي أمام الصدمات الخارجية، خاصة في ظل اعتماده شبه الكامل على قطاع النفط والتجارة البحرية.
وإذا لم تتغير الظروف السياسية والدبلوماسية، فمن المتوقع أن تتعمق الأزمة الاقتصادية، وأن تزداد تكلفة الشحن والتأمين، ما يجعل من الصعب على فنزويلا المحافظة على قدرتها التنافسية في أسواق الطاقة العالمية. ومع ذلك، فإن الحلول موجودة لكنها تتطلب استقرارًا سياسيًا واسعًا وتعاونًا دوليًا أكبر لضمان استدامة حركة الملاحة وتدفق التجارة.
كاتب اقتصادي
