ارتكز صعود اليابان على نظام إنتاج منسق بإحكام. وبسبب تمكن الشركات اليابانية من الحصول على حصص ملكية في الشركات المورِّدة لها -وهو ما كان قانون مكافحة الاحتكار الأمريكي يحاول منعه- استطاعت أن تنسج شبكات معرفة كثيفة عززها نظام إدارة اللوجستيات في الوقت المناسب، والتصميم بمساعدة الكمبيوتر، وأدوات يمكن إعادة برمجتها. وكانت النتيجة كفاءة لافتة للنظر، فقد تجاوزت إنتاجية عمال مصانع السيارات في اليابان إنتاجية نظرائهم الأمريكيين بنسبة 17% بحلول 1980، ما دفع شركتي فورد وجنرال موتورز إلى إعلان تكبدهما خسائر فادحة.
ومع هذا، لم تتحقق الميزة اليابانية باختراع منتجات جديدة بقدر ما تحققت بفضل تحسين مستوى منتجات غربية. ولم تصبح أجهزة التلفاز الملونة، والأجهزة المحمولة لتشغيل شرائط الكاسيت "ووكمان"، وأجهزة تسجيل شرائط الفيديو صيحات عالمية إلا بعد أن أعاد المهندسون اليابانيون تصميمها من أجل خفض تكلفتها وزيادة متانتها. وفي دراسة رائدة، خلُص الاقتصادي إدوين مانسفيلد إلى أن نحو ثلثي أعمال البحوث والتطوير في اليابان استهدفت تحسين العمليات -وهي الصورة المناظرة للجهود الأمريكية المكثفة في مجال المنتجات- ما أتاح تحويل أسرع لأوجه التقدم المعملي إلى سلع تجارية زهيدة الثمن.
ولكن مواطن القوة البالغة هذه تحولت إلى قيود. فقد توقع مراقبون بارزون مثل الفريد تشاندلر الابن أن يكافئ عصر الكمبيوتر الإتقان في صُنع الأجهزة وتبسيط الإنتاج وهما عنصران منحا أفضلية لليابان- إلا أن ديناميكية الشركات البادئة الأمريكية، مثل آبل ومايكروسوفت، هي التي حسمت الأمر.
وقد أدت سياسة مكافحة الاحتكار في الولايات المتحدة، المترسخة في قانون شيرمان لمكافحة الاحتكار لعام 1890، إلى فتح الأسواق عنوة بإجبار شركة آي بي إم (IBM) على فصل أجهزتها عن برمجياتها، وبتقسيم شركة إيه تي آند تي (AT&T) قبيل انطلاق الإنترنت التجاري. ودون حارس بوابة واحد، أمكن لرواد الأعمال الابتكار بحرية، وتوسعت الشبكات دون معوقات.
وعلى النقيض من ذلك، عززت قواعد المنافسة الأيسر في اليابان تكوين اتحادات احتكارية ورسخت تكتلات الشركات المعروفة بنظام "كيرستو" الياباني. وأصبح التنسيق نفسه الذي أدى في يوم من الأيام إلى تسريع عمليات التحديث التدريجي هو سبب التباطؤ الحالي في القفزة نحو نماذج أعمال مستندة إلى البرمجيات والإنترنت، مؤديا بذلك إلى مزاحمة المنضمين الجدد إلى هذا المجال. ومن ثم، توقف الزخم التكنولوجي في اليابان. وحتى داخل الولايات المتحدة، تفوَّق أداء المناطق التي ترتكز على المنافسة الشرسة، مثل وادي السيليكون، على المناطق الأكثر هرمية والمتكاملة رأسيا مثل تجمع شركات التكنولوجيا على الطريق 128 في منطقة نيو إنجلاند.
اليابان ليست مثالا منعزلا عن غيرها. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، حقق اقتصاد أوروبا الغربية نموا سريعا بفضل اعتماد الطرق الأمريكية للإنتاج الضخم على مستوى طائفة واسعة من الصناعات. وقد نجحت تلك الإستراتيجية على مدى عدة عقود، ولكن بحلول سبعينيات القرن الماضي، كانت أوروبا قد استنفدت تراكم التكنولوجيا الأمريكية. وللحفاظ على النمو، كان من الضروري أن تتحول إلى نموذج يستند إلى الابتكار وليس مجرد مواكبة التكنولوجيات القائمة.
وثبت أن هذا التحول ينطوي على تحديات. فقد تشكلت المؤسسات الاقتصادية في أوروبا من خلال تاريخ طويل من اللحاق بركب الصناعة، وأُنشئت في أواخر القرن التاسع عشر لاستيعاب التكنولوجيا البريطانية، وتعززت أثناء حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حين كانت أوروبا تعمل على سد الفجوة بينها وبين الولايات المتحدة. وتمثل الهدف من هذه المؤسسات في دعم تحقيق نمو اقتصادي مستقر ويمكن التنبؤ به من خلال تخطيط دقيق، وصناعات منسقة، وتعاون وثيق بين الشركات والبنوك والحكومات.
وكانت هذه الرأسمالية المنسقة فعالة حين كانت المهمة واضحة -أي مواكبة الممارسات الصناعية الراسخة- ولكنها تحولت إلى عقبة حين واجهت حالة عدم اليقين والاضطراب بفعل ثورة الكمبيوتر وأشكال تكنولوجيا المعلومات الجديدة.
وفي فرنسا، فإن النظام الحكومي للتخطيط الإرشادي، الذي حدد الأهداف الاقتصادية لتنسيق الاستثمارات، عمل بشكل جيد محرزا تقدما تكنولوجيا تدريجيا ويمكن التنبؤ به. ولكن في ظل التغير التكنولوجي السريع، أصبح المخططون مثقلين وغير قادرين على التنبؤ بدقة وتوجيه الموارد بكفاءة.
وبالمثل، ثبت أن المؤسسات المملوكة للدولة في إيطاليا، التي كانت بالغة الأهمية أثناء مرحلة الانتعاش في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تتسم بالجمود وعدم الاستجابة لمتطلبات عصر جديد يموج بالاضطرابات التكنولوجية. وفي إسبانيا والبرتغال، أدى نفوذ الدولة الهائل، مقترنا بالمصالح الراسخة، إلى تقييد المرونة الاقتصادية بشدة، ما عرقل الابتكار والتكيف. ونتيجة لذلك، شهدت هذه البلدان في جنوب أوروبا فترة ركود اقتصادي طويلة أثناء ثورة الكمبيوتر، التي غالبا ما يُشار إليها باسم "العقدان الضائعان".
أستاذ مساعد كرسي ديتر شوارتز للذكاء الاصطناعي ويعمل في جامعة أوكسفورد
