دانية أركوبي
في عالم اليوم، لم يعد التنافس الحقيقي بين الدول يدور حول الأرض أو الموارد أو حتى رأس المال، بل حول المعرفة. فالدول التي ستقود العصر المقبل هي تلك التي تستطيع تحويل الأفكار إلى صناعات، والبحوث إلى ابتكارات، والمواهب العلمية إلى قوة وطنية.
ما كان مستحيلا بالأمس، أصبح حقيقية نتعايش معها اليوم. فالحاسوب الذي كانت مساحته تحتاج إلى غرفة كاملة في سبعينيات القرن الماضي، أصبح اليوم في حجم كف اليد. وما كان يوصف بأفلام الخيال العلمي عن دور الروبوتات في المستقبل، ترد عليه اليوم صالات الإنتاج في المصانع.
ولهذا السبب تتقدم بعض الدول بسرعة بينما تكافح أخرى للحاق بالركب. تايوان، وهي جزيرة صغيرة يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، أصبحت جزءًا لا غنى عنه في الاقتصاد العالمي، ليس بمحض الصدفة، بل لأنها أقامت واحدًا من أقوى منظومات البحث والابتكار في العالم. وفي عصر الذكاء الاصطناعي، والتصنيع المتقدم، والتحولات التكنولوجية السريعة، لم يعد البحث والتطوير عنصرًا إضافيًا، بل هو المحرك الإستراتيجي للقوة الوطنية.
مئات المليارات من الدولارات تنفق سنويًا من الحكومات والشركات والجامعات على البحث والتطوير. مع تفوق واضح للولايات المتحدة بقيادة قطاعها التكنولوجي والعسكري، وملاحقة الصين بصناعاتها الصاعدة يوم بعد يوم، ومنافسة مع القوى الصاعدة مثل الهند وفيتنام. وتباطؤ في القوى التقليدية في أوروبا وآسيا.
بالتخلي عن لغة الأرقام نجد أن كل دولار ينفق على البحث والتطوير قادراً على إضافة عائد اقتصادي مضاعف. الصين التي كانت في مصاف الدول المتأخرة، تملك اليوم الريادة في قطاعات حيوية، من السيارات الكهربائية والبطاريات إلى الطاقة المتجددة، وحتى المعادن النادرة والإلكترونيات. الولايات المتحدة بفضل معامل أبحاثها تملك سيطرة هائلة على قطاع التقنية والأدوية والتصنيع العسكري.
يحقق البحث والتطوير ما لا تحققه الوسائل التقليدية، بجانب القيمة المضافة العالية للاقتصاد، وخفض التكلفة ورفع الكفاءة. تحقق مراكز الأبحاث تفوق نوعي للدول في قطاعات حساسة ذات ارتباط بالأمن القومي، وتكون بمنزلة ورقة رابحة في الصراعات الاقتصادية والجيوسياسية.
في السعودية وصل حجم الإنفاق على البحث والتطوير في 2024 إلى 7.9 مليار دولار محققاً نموا بنسبة 102% مقارنة بمستويات 2021 التي بلغت 3.9 مليار دولار. وتمثل هذه اللحظة فرصة نادرة. فالمشهد التكنولوجي العالمي يُعاد تشكيله الآن، ما يمنح السعودية فرصة ليس فقط للحاق بالركب، بل للقفز إلى الأمام وبناء صناعات جديدة قائمة على قدرات بحثية عالمية المستوى.
تحتاج السعودية إلى اتخاذ خطوات مهمة تعزز من البحث والتطوير وبخاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة. تبدأ من إعادة تشكيل مخرجات التعليم لتتناسب مع القطاعات ذات الأولوية، وإعطاء اهتمام إضافي للمواهب والنوابغ المحلية في المراحل التعليمية المتقدمة، إضافة إلى بناء شبكة من الحوافز تجذب المواهب الأجنبية في قطاعات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي والتصنيع المتقدم، والاستفادة من التوترات الجيوسياسية التي تؤدي لهجرة العقول من مراكزها التقليدية.
بالنظر في هيكل تمويل البحث والتطوير في السعودية، نجد أن القطاع الحكومي يسيطر على أكثر من 53%. وبرغم أهمية الدور الحكومي في تقديم الدعم، إلا أنه من المهم أن يقتصر على الصناعات الحيوية في مراحلها الأولية. مع إفساح المجال أمام القطاع الخاص لضخ التمويل لبناء مراكز الأبحاث وتعميق التعاون مع المؤسسات التعليمية مثل الجامعات.
الاستثمار الأجنبي له دور مهم في دعم البحث والتطوير. فكثير من الدول تضع شروط على الاستثمارات الخارجية بضرروة إنشاء مراكز للبحث والتطوير في السوق المحلية، لتوظيف وتدريب الكفاءات. لذلك من المهم توسيع الشراكات بين المؤسسات السعودية مثل صندوق الاستثمارات العامة والشركات الأجنبية لإقامة مراكز تطوير منتجاتها في الداخل.
في الختام لم يعد البحث والتطوير رفاهية أو سياسة ثانوية. إنما أساس القدرة التنافسية في عالم أصبحت فيه التكنولوجيا من محددات القوة الاقتصادية، والنفوذ الجيوسياسي، وحتى تفاصيل الحياة اليومية للأفراد. فالدول التي تستثمر في البحث لا تعزز الكفاءة فحسب، بل تؤمن القدرات التي تحدد من سيقود صناعات المستقبل.
وإذا استثمرت السعودية في دعم هذا المسار فلن تكتفي بتنويع اقتصادها، بل ستسهم في تشكيل التقنيات التي يعتمد عليها العالم. فالدول التي تمتلك المستقبل هي تلك التي تستثمر في اكتشافه. فلديها فرصة لتكون واحدة منه.
مستشارة اقتصادية
