بكر عبداللطيف الهبوب
في بيئات الأعمال اليوم، تُقدَّم الحوكمة باعتبارها درعًا واقيًا للمستثمرين وشرطًا لا يمكن تجاوزه لأي كيان يطمح للنمو أو للطرح العام. غير أن هذا البريق الظاهر كثيرًا ما يخفي واقعًا مختلفًا؛ إذ تتحول الحوكمة، في عديد من الممارسات، إلى لوحة تُعلَّق على الشركة: لوائح تُنشر، لجان تُشكَّل، وتقارير تُرفع، بينما جوهر القرار يبقى خارج هذه المنظومة تمامًا. هنا تبدأ الإشكالية الحقيقية: حين تصبح الحوكمة مجرد "إكسسوار استثماري" لا أكثر.
إنَّ الحوكمة في جوهرها منظومةٌ تُعنى ببيئة اتخاذ القرار، لا بكمية الورق المُنتج. فهي الإطار الذي يحدد الصلاحيات والمسؤوليات وآليات المساءلة، ويضبط تدفق المعلومات داخل المؤسسة من خلال الإفصاحات، وتقارير الأداء، وآليات التحقق، وتوازن السلطات. غير أنَّ هذه الأدوات التي يفترض أن تمنح القرار جودةً، يُمكن أن تتحول إلى عبء إجرائي حين تُمارَس كطقوسٍ روتينيةٍ لا تُلامس الواقع ولا تغيّر في مسار السلطة الفعلية داخل المؤسسة.
في المقابل، يتحرك رائد الأعمال، في مراحل التأسيس، بمنطق مختلف تمامًا: سرعة، حدس، وقابلية فورية لتعديل الاتجاه. تلك عناصر تمنحه ميزة تنافسية يصعب على الشركات الكبرى -المقيدة بطبقاتها الإدارية- أن تضاهيها. وتشير Harvard Business Review إلى أن المؤسسات ذات القرارات السريعة تتفوق بما يصل إلى 30% في قدرتها على التكيف مع التحولات السوقية. هذا التباين بين منطق الريادة ومنطق الحوكمة يوجد توترًا ملازمًا في رحلة الشركة من الناشئة إلى المدرجة.
هذا التوتر تجلى بوضوح في قصة استحواذ فيسبوك على إنستجرام عام 2012؛ إذ اتخذ مارك زوكربيرج قرار الاستحواذ خلال أيام قبل الإدراج ومتطلباته، دون المرور بالمسار التقليدي للمجالس واللجان، ثم عاد لاحقًا لاستكمال الإجراءات. القرار صُنِع أولًا، ثم جاءت الحوكمة لتلحق به. وهذا النمط هو ما نراه في كثير من التجارب "الحوكمة تتبع القرار بدل أن تقوده".
ويستمر سلوك بعض رواد الأعمال بعد الإدراج، وشاهدها تصرف إيلون ماسك في شركة تسلا بعد الإدراج، حيث حافظ على تحكم واسع بالقرار، مُقدِّمًا رؤيته الشخصية على متطلبات الإفصاح والضبط، ما دفع الجهات التنظيمية الأمريكية للتدخل وفرض قيود على صلاحياته. الحالة لم تكن صدامًا بين الرئيس التنفيذي والجهة الرقابية فحسب، بل بين فلسفة الفرد وفلسفة الحوكمة.
غير أنَّ المفارقة الكبرى تحدث بعد أن تنضج شركة رائد الأعمال وتتحول إلى شركة عائلية ذات نفوذ. إذْ يُعاد إنتاج النهج الفردي تحت غطاء من "مساحيق الحوكمة" التي تُرضي الشكل النظامي، بينما تبقى السلطة الفعلية محصورة في دائرة ضيقة يديرها المؤسس أو العائلة.
وتتجلى هذه الحالة في ممارسات متكررة، أبرزها الانفراد غير المعلن بالقرار، وتعيين أفراد من العائلة بمعزل عن معيار الكفاءة، وتضخيم المكافآت دون ارتباط حقيقي بالأداء، واستمرار التعاملات مع أطراف ذات علاقة. مؤشرات توحي بوجود الحوكمة شكلاً، وغيابها ممارسةً.
وقد جسدت مجموعة Tata–Mistry الهندية هذا الصدام بوضوح؛ إذ تفجرت الأزمة عقب إقالة سيريوس ميستري من رئاسة المجموعة، وسط اتهامات لمجلس إدارة واقع تحت نفوذ العائلة المؤسسة بتقويض استقلالية الإدارة التنفيذية، في واحدة من أبرز أزمات الحوكمة التي شهدتها السوق الهندية.
وتترك تلك السلوكيات تساؤلًا مفتوحًا: متى تكون الحوكمة عبئًا، ومتى تصبح قيمة؟ فالجواب، رغم بساطته الظاهرة، عميق في جوهره؛ إذ تتحول الحوكمة إلى عبء حين تُمارس كقالب شكلي يهدف إلى طمأنة النظام لا إصلاحه، وتغدو قيمة حين ترتبط فعليًا بصنع القرار، وتعيد توزيع السلطة، وتمنح المستثمر ثقة بأن النظام سيعمل حتى لو تغيّر الأشخاص. فالاختبار الحقيقي للحوكمة لا يكون في الاستقرار، بل عند الأزمات، حين يتضح إن كانت مجرد أوراق رقابية أم درعًا يحمي الشركة من نفسها.
وبين التكلفة والقيمة، وبين الإكسسوار والأداة، تقف الحوكمة على خط دقيق، تتعاظم عنده مسؤولية الجهات الرقابية في حماية المستثمرين ومنع توظيف الحوكمة كواجهة تجميلية تُخفي مصدر القرار الحقيقي.
مستشار قانوني
