دانية أركوبي
الميزانية في القاموس المالي تعنى الموازنة بين الإيرادات والنفقات. ولكن في الأعراف الاقتصادية، يتجاوز تأثيرها هذا الحاجز، فهي قادرة على إسقاط حكومات، وصعود وهبوط تيارات سياسية واقتصادية. وفي وقتنا الحالي، حيث وضع عالمي مضطرب جيوسياسياً وتجارياً، ومعدلات ديون لم يعرف لها مثيل في عصرنا الحديث، يصاحبها ضعف في النمو، فلم تعد الميزانيات أدوات للاستقرار، بل مصدر لعدم الاستقرار. فبعد أن كانت وسيلةً لتحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، باتت الميزانية الحديثة مرآة لخلل أعمق بين ما تعد به الحكومات وما يمكن لاقتصاداتها تحمّله.
في الاقتصادات النامية، العجز المستمر مألوف. قواعد ضريبية ضعيفة، واعتماد مفرط على السلع الأساسية، واقتراض مكثف لسد الفجوات. الجديد اليوم أن هذا النمط نفسه أصبح يعرف العديد من الاقتصادات المتقدمة. مستويات الدين تتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وتكاليف الفائدة المتصاعدة، والجمود السياسي بشأن الإنفاق، كلها حولت السياسة المالية إلى نقطة ضغط على الأسواق.
السقوط السريع في فخ العجز يتحمل النسبة الأكبر من مسؤوليته صانعي السياسات والحكومات المتعاقبة. فالفشل في خلق وابتكار مصادر بديلة للإيرادات تحقق التوازن المالي كبديل للاستدانة والاقتراض، إضافة إلى الإسراف في الإنفاق، وبالأخص فيما يتعلق بحزم التحفيز بعد الصدمات الكبرى مثل الأزمة المالية العالمية ووباء كورونا. دون وجود غطاء مالي أو مصادر بديلة للتمويل، أدى إلى مفاقمة العجز وارتفاع معدلات الدين العام. وما فاقم الأزمة كانت دورة التشديد النقدي من البنوك المركزية التي رفعت أسعار الإقراض.
فرنسا تمثل المثال الأوروبي الأبرز في الوقت الحالي، حيث أدت المعارك المتكررة حول خفض العجز إلى إسقاط 4 حكومات خلال عامين فقط. لكن النمط أوسع، فمع استثناءات قليلة، تكافح الحكومات في كل مكان في القارة للتوفيق بين توقعات الناخبين بالحماية الاجتماعية والأمن والاستثمار والازدهار والتوظيف، وبين تضاؤل الحيز المالي وارتفاع تكاليف الاقتراض.
على المدى القصير يسود اليأس في إيجاد حل واقعي لإعادة الحياة للميزانيات المتخمة بالديون، فلم تعد المشكلة مرتبطة بالأرقام فقط، بل في قدرات الدولة. فالحكومات تحاول تحقيق نتائج القرن الـ21 في مجالات التكنولوجيا والمناخ والصحة والدفاع بأنظمة مالية صممت لعصر مختلف. والنتيجة هي دائرة من الحلول المؤقتة، وحزم التحفيز، والاقتراض الطارئ الذي يحافظ على الطلب لكنه يقوض الثقة.
الحل ليس في مزيد من التقشف، ولا يمكن أن يكون في الاقتراض المستمر. المطلوب هو إعادة تصور لكيفية إدارة الدولة لمواردها وتعبئتها. يبدأ ذلك بإنفاق أكثر ذكاء. يمكن للتقنيات الحديثة أن تساعد الحكومات على تتبع الإنفاق في الوقت الفعلي، وتقليل الهدر، وتوجيه الأموال إلى المجالات التي تحقق عوائد اقتصادية واجتماعية ملموسة. الأنظمة الرقمية الشفافة، المقترنة بالمساءلة الواضحة، يمكن أن تحقق الكفاءة والثقة معاً.
على الحكومات أيضا أن تطلق أشكالًا جديدة من خلق القيمة. فالزيادات الضريبية على الأسر والشركات ستخنق النمو، لكن هناك إمكانات هائلة في الاستخدام الأفضل للأصول العامة مثل الأراضي والبيانات والبنية التحتية كلها تدار عبر شراكات بين القطاعين العام والخاص تجذب الاستثمار وتحمي المصلحة العامة؟ وتتطلب الاستدامة المالية إستراتيجية أكثر نشاطًا للنمو الإنتاجي.
فاستثمارات الدولة في التصنيع المتقدم، والذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، وتنمية المهارات، يمكن أن توسّع قاعدة الإيرادات بدلاً من أن تزيد العجز. تظهر اقتصادات ناشئة مثل فيتنام والصين أن التحول الصناعي لا يزال مهمًا، وينبغي على الاقتصادات المتقدمة أن تعيد تعلم هذا الدرس.
وعلى صناع القرار أن يتعاملوا مع الميزانية ليس كمجرد تمرين محاسبي سنوي، بل كاختبار جوهري للإدارة، هل تستطيع الدولة اتخاذ القرارات، وتحديد الأولويات، والتنفيذ. يتطلب ذلك مؤسسات قادرة على التخطيط طويل المدى، وقادة يملكون الثقة الكافية لشرح المقايضات للمواطنين.
ختاماً تحولت الميزانية العامة في الاقتصادات المتقدمة إلى محور رئيسي للاقتصاد والسياسة. فخفض التصنيف الائتماني أصبح خبرا معتادا، وتنبؤات التخلف عن سداد الديون صارت أقرب للواقع، وتساقط الحكومات بات أسرع مما نتخيل، ودعوات التفكك والخروج من التكتلات الاقتصادية لم تعد محظورة وتلقى بقبول أوسع في الشوارع يوم بعد يوم.
فالميزانيات دائمًا تمثل انعكاسًا للسياسة، لكنها لا يجب أن تهدد الاستقرار. فبأدوات أفضل، وأولويات أوضح، وإحساس حديث بقدرات الدولة المالية، يمكن للحكومات أن تعيد بناء أسس الصلابة الاقتصادية، وتستعيد ثقة الجمهور في فكرة أن الدولة قادرة مرة أخرى على الإنجاز.
مستشار اقتصادي
