جيف كيرنز
بدأ تييري كاليسا في استخدام البيانات الجديدة منذ عقد مضى لإعداد التوقعات الاقتصادية اللحظية، أو ما يُعرف باسم "التنبؤ الآني"، لكن الجائحة جاءت لتلقي مزيدا من الضوء على إمكانات هذه البيانات.
وبصفته مسؤولا في وزارة المالية الرواندية في الوقت الذي داهمت فيه جائحة كوفيد العاصمة كيغالي، تعاون كاليسا ضمن فرقة عمل مشتركة مع البنك المركزي لمراقبة الانهيار الاقتصادي الحاد في ظل أول إغلاق عام تشهده إفريقيا جنوب الصحراء. وسرعان ما تحولت المؤشرات الاقتصادية الرسمية إلى بيانات بالية، حتى قبل نشرها.
وقد أطلقت المجموعة مؤشرا أسبوعيا للنشاط الاقتصادي يستند إلى مقياس صادر عن البنك المركزي يتضمن عوامل مثل الصادرات والواردات، إضافة إلى بيانات الإنفاق الاستهلاكي اللحظية المستمدة من ماكينات الفوترة الإلكترونية التابعة لهيئة الضرائب في المتاجر. وتدهورت الآفاق، وشهد الاقتصاد نوبة انكماشية سريعة.
ويقول كاليسا، الذي انضم إلى البنك المركزي في منصب كبير الاقتصاديين 2021، "ساعد ذلك الحكومة على مراجعة توقعات النمو، وتعديل الإطار الاقتصادي الكلي، واتخاذ الإجراءات اللازمة على مستوى السياسات في الوقت المناسب".
واليوم، تتضمن* إحاطات مسؤولي بنك رواندا الوطني، التي تسبق اجتماعات لجنة السياسة النقدية ربع السنوية، مجموعة من التنبؤات الآنية. ويعمل كاليسا على زيادة عدد أفراد فريقه من الاقتصاديين والإحصائيين وعلماء البيانات للمساعدة في إعداد هذه التنبؤات. ويقول كاليسا "يتطلب ذلك كثيرا من القدرات التحليلية، لكنه يتيح مؤشرات عالية التواتر أيضا".
ثغرات البيانات
تعد رواندا من بين الاقتصادات النامية التي تتبنى منهجا جديدا في القياس الاقتصادي. ويسعى كثير من هذه الاقتصادات إلى تقليص الفجوات التي تفصله عن الاقتصادات المتقدمة ومعظم الأسواق الصاعدة في إعداد المؤشرات الرسمية التي تُنشر إما نادرا أو بعد أوانها في عديد من الاقتصادات النامية. وتمتلك هذه الاقتصادات المتقدمة والأسواق الصاعدة ما يلزمها من كوادر وتمويل وموارد أخرى. أما الاقتصادات النامية بكتلتها السكانية الكبيرة، فقد سبقها الركب.
وتشمل المبادرات صندوق التتبع الآني لمؤشرات النمو الاقتصادي والتضخم والتجارة والاستهلاك. وتعمل حاليا بلدان عديدة منخفضة الدخل على تطوير عمليات البيانات بدعم من أنشطة تنمية القدرات والمساعدة الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي.
وتؤثر ثغرات البيانات في البلدان منخفضة الدخل أكثر من غيرها. فتنشر الاقتصادات المتقدمة ومعظم الأسواق الصاعدة بيانات إجمالي الناتج المحلي على أساس ربع سنوي، في حين ينشر نحو ثلث بلدان العالم بيانات إجمالي الناتج المحلي على أساس سنوي فقط، ما يثير حالة من التخبط بين صناع السياسات لفترات طويلة.
وحتى في البلدان التي تسارع بنشر بيانات إجمالي الناتج المحلي، يستغرق صدورها شهرا أو أكثر من نهاية ربع السنة. وفي أوقات الأزمات، يثير الانتظار قلق صناع السياسات الذين يجب عليهم قيادة الاقتصاد دون معرفة وجهته.
وقد سلطت الاضطرابات غير المسبوقة الناجمة عن الجائحة الضوء على هذه الحقيقة، وأبرزت الحاجة إلى مقاييس مكملة أكثر حداثة وتواترا إلى جانب البيانات الرسمية. فقد توقفت بعض الأنشطة، وازدهر البعض الآخر، وتأثرت عمليات جمع البيانات اللازمة لإعداد المؤشرات، ما تسبب في تشوهات. وهي حالة من "الظلام الإحصائي" على حد تعبير برونو تيسو، رئيس قسم الإحصاءات وأمين لجنة إيرفينج فيشر المعنية بإحصاءات البنوك المركزية في بنك التسويات الدولية.
وفي تقرير* صدر عام 2023 حول إحصاءات البنوك المركزية فيما بعد الجائحة، أشارت اللجنة إلى أن "البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم أدركت أهمية توفير مؤشرات حديثة، بما في ذلك عبر استخدام مصادر البيانات البديلة عالية التواتر، وبناء مؤشرات أسبوعية أو يومية، وتعزيز أنشطة التنبؤ الآني".
أداة التنبؤ الاستشرافي
اُستحدث مفهوم "التنبؤ الآني" في ثمانينيات القرن الماضي* كأحد مصطلحات الأرصاد الجوية تعبيرا عن التنبؤ بحالة الجو قبلها بساعات قليلة فقط.
أما في علم الاقتصاد، فيحمل هذا المصطلح دلالة أخرى.
فقد قال دومينيكو جانوني، رائد التنبؤ الآني: "في حالة الطقس، حسبك أن تطل من نافذتك لترى ما إذا كان الجو ممطرا أم لا. أما في الاقتصاد، فعليك الانتظار".
وكانت دراسة* جانوني التي صدرت في عام 2008 حول التنبؤ الآني، واشترك في تأليفها مع لوكريتزيا رايشلين* وديفيد سمول، السبب في دخول هذا المصطلح إلى علم الاقتصاد.
وقد بدأ جانوني ورايكلين، اللذان كانا يعملان معا آنذاك في جامعة ليبر دي بروكسل، في وضع نموذج للتنبؤ الآني على المدى القصير في عام 2002، بناء على طلب من بن برنانكي، أحد محافظي الاحتياطي الفيدرالي في ذلك الوقت. فقد طلب منهما البحث في جدوى إعداد نموذج شامل للبيانات الكبيرة لأغراض التنبؤ الآني وتحليل السياسات، بحيث يغطي التفاعلات بين قطاعات الاقتصاد الرئيسية. واكتشف جانوني ورايكلين أن إمكانية التنبؤ تقتصر على الحاضر، والماضي القريب جدا، والمستقبل القريب جدا - ما أسمياه "التنبؤ الآني" - وصمما نموذجا لاستخدام البيانات اللحظية في إعداد تلك التنبؤات. وبذلك تحول إعداد التنبؤات مما كان في السابق عملية غير رسمية تعتمد إلى حد كبير على التقدير الشخصي، إلى إطار إحصائي رسمي.
وتقول رايكلين، الأستاذ في كلية لندن لإدارة الأعمال والمدير السابق لإدارة البحوث في البنك المركزي الأوروبي، إن "الاحتياطي الفيدرالي كان مهتما بمعرفة مدى قدرة هذا الإطار على معالجة إشكالية قراءة جميع الإصدارات المختلفة في الوقت الحقيقي. ففي ذلك الوقت، كانت النماذج الاقتصادية الكلية صغيرة نسبيا - وكان ذلك قبل ظهور "البيانات الكبيرة" - وبدأنا نتساءل، ما النماذج التي يمكنها التعامل مع عديد من السلاسل الزمنية بقدر من البساطة بحيث لا تولد تقديرات متقلبة وغير موثوقة؟".
وقد استعان جانوني لاحقا بهذه البحوث في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، حيث تولى إعداد نموذج للتنبؤ الآني بالتقديرات الأسبوعية* للنمو الاقتصادي الأمريكي ربع السنوي.
وعقب شغله عدة مناصب في كل من البنك المركزي الأوروبي وأمازون وصندوق النقد الدولي، انضم جانوني إلى جامعة جونز هوبكنز هذا العام للتركيز على تحسين قياس النشاط الاقتصادي في البلدان منخفضة الدخل. وقال "إن ما دفعه جزئيا لذلك هو إدراكه أن أدوات التنبؤ الآني في الاقتصادات الأكبر والأغنى تغطي كافة جوانب الاقتصاد العالمي تقريبا، في حين لا تملك البلدان منخفضة الدخل أيا من ذلك تقريبا".
خبير اقتصادي في صندوق النقد الدولي
