واشنطن العاصمة، مدينة القرار العالمي وعاصمة النفوذ السياسي، والعاصمة التي لا تُجامل ولا تُعرف بالمبالغات، بدت مختلفة هذه المرة. ازدانت شوارعها بحفاوة واضحة، وتأهّبت مؤسساتها لاستقبال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في زيارة حملت ثقل مرحلة تُعاد صياغتها على مستوى الإقليم والعالم. لم تكن هذه الرحلة بروتوكولًا تقليديًا، بل مسارًا محمّلًا برؤى إستراتيجية تعيد تشكيل الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية بين المملكة والولايات المتحدة. ومع تنوّع القضايا المطروحة، تقدّم ملف الطاقة إلى واجهة المشهد باعتباره الركيزة التي تتقاطع عندها مصالح البلدين، والعنوان الأبرز لتحولات العقد المقبل.
هيمنت السعودية لعقود على أسواق النفط بوصفها أكبر مصدّر عالمي وأهم لاعب في ضبط التوازنات السوقية. ولا يزال هذا الدور قائمًا بثقل واضح، غير أن المشهد الآخذ في التشكل اليوم يشير إلى انتقال المملكة من “قوة نفطية” إلى “منظومة طاقة شاملة” تتداخل فيها التكنولوجيا مع الصناعة، والإستراتيجية مع الأمن الاقتصادي.
الطاقة النووية السلمية
برز ملف الطاقة النووية السلمية كأحد أهم مخرجات زيارة ولي العهد إلى واشنطن ولقائه الرئيس دونالد ترمب. فقد كشفت البيانات الرسمية الصادرة عن البيت الأبيض ووزارة الطاقة الأمريكية عن اتفاق يؤسس لشراكة تقنية متقدمة بين السعودية والولايات المتحدة في تطوير مشاريع الطاقة النووية المدنية، يقوم على أعلى معايير الأمان والأمن النووي وعدم الانتشار. وقد عُدّ هذا التطور اعترافًا دوليًا بقدرة المملكة على دخول المرحلة التالية من منظومة الطاقة المتقدمة.
ويمثل هذا التعاون نقطة تحول في مسار البرنامج النووي في السعودية، إذ ينتقل من نطاق التخطيط المحلي إلى شراكة مباشرة مع إحدى أكبر القوى التكنولوجية في العالم. وتعكس هذه الخطوة توجهًا إستراتيجيًا طويل المدى داخل منظومة للطاقة، يقوم على بناء قدرات نووية مدنية متقدمة مدعومة بالخبرة الأمريكية والابتكار التقني.
وقد أسست مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة الإطار المؤسسي والفني الذي يمكّن المملكة من تطوير مشاريع الطاقة النووية وفق أعلى المواصفات، إلى جانب تطوير الأطر التشريعية والتنظيمية وبناء القدرات الوطنية. كما تعمل المملكة على إنشاء سلاسل قيمة متكاملة تشمل تقييم موارد اليورانيوم المحلي وتطوير تقنيات المفاعلات وربطها بقطاعات التحلية والهيدروجين والصناعات الثقيلة.
بهذا المسار، لا تدخل المملكة مجال الطاقة النووية كمستخدم فحسب، بل كمطور لحلول هندسية مستقبلية تعزز مكانتها كقوة طاقية صاعدة تسهم في صياغة مستقبل الطاقة العالمي.
الغاز الطبيعي المسال
موازاةً للتقدّم في ملفّ الطاقة النووية، برز محور الغاز الطبيعي المسال بوصفه عنصرًا رئيسيًا في رؤية السعودية للطاقة المستقبلية، فقد أصبحت السعودية تعمل على بناء حضور متنامٍ داخل هذا القطاع، مدفوعة بتعاون متزايد مع الولايات المتحدة بصفتها أكبر مصدّر عالمي للغاز المسال. وكشفت الخطوات التي أعلنت خلال الزيارة عن توجه مشترك يعكس إدراكًا لأهمية الغاز المسال في مرحلة التحول الطاقي العالمية.
ويمتد هذا المسار ليعكس تحركات تقودها أرامكو خلال السنوات الأخيرة، حيث دخلت ضمن المشاركين الرئيسيين في مشاريع تسييل الغاز الأمريكية على ساحل خليج المكسيك عبر اتفاقات طويلة المدى. وتشكل هذه الشراكات أساسًا لتطوير محفظة غاز سعودية متكاملة تشمل التوريد والاستثمار المباشر في الإنتاج والتسييل.
وترتبط هذه الخطوة برؤية أوسع لإعادة تشكيل مزيج الطاقة داخل السعودية، ودعم مشاريع الجافورة والهيدروجين الأزرق، وتطوير الصناعات ذات الاستهلاك العالي للطاقة. وتضع هذه التحركات المملكة على مسار المنافسة عالميًا، مستندة إلى تنويع الموارد وتعزيز الحضور في أسواق الغاز الدولية.
المعادن الحرجة
اكتسب ملف المعادن الحرجة أهمية متزايدة داخل النقاشات المشتركة، في وقت أصبحت فيه هذه المعادن عنصرًا أساسيًا لصناعات الطاقة الجديدة. فالتحول العالمي نحو البطاريات، والهيدروجين، وتوربينات الرياح، والشرائح الإلكترونية، يعتمد على معادن مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت والجرافيت والعناصر الأرضية النادرة.
وقد أطلقت وزارة الطاقة الأمريكية إستراتيجية لتأمين سلاسل الإمداد وتقليل الاعتماد الخارجي، ما جعل المملكة خيارًا طبيعيًا لواشنطن نظرًا لامتلاكها ثروة تعدينية تفوق 2.5 تريليون دولار وفق بيانات وزارة الصناعة والثروة المعدنية، إضافة إلى بنية لوجستية وصناعية متقدمة تمكّنها من التحول إلى مركز عالمي في معالجة المعادن وتصنيع مواد البطاريات.
وتقود "معادن" هذا التحول عبر توسعات دولية وشراكات في مجالات الاستكشاف والمعالجة المتقدمة. يمثل الاستثمار في المعادن الحرجة استثمارًا في البنية التحتية لعصر الطاقة الجديد، حيث تعتمد صناعة الهيدروجين على المعادن لوحدات التحليل الكهربائي، وتعتمد البطاريات على الليثيوم والجرافيت والمنجنيز، وتعتمد صناعات الذكاء الاصطناعي على معادن تدخل في الشرائح الدقيقة وأنظمة التبريد. بهذه الرؤية، تتقدّم السعودية إلى قطاع المعادن بوصفها قوة صناعية متكاملة، لا مجرد مستخرج للموارد، بما يربط ثرواتها الطبيعية بمنظومة الاقتصاد العالمي المتقدم.
الذكاء الاصطناعي والطاقة
لم يعد الذكاء الاصطناعي اليوم قطاعًا تقنيًا مستقلًا، بل أصبح جزءًا مباشرًا من منظومة الطاقة العالمية، لأن مراكز البيانات العملاقة التي تشغّله تعتمد على كهرباء مستقرة وقدرات تبريد عالية وأحمال طاقية ضخمة. ومن هذا المنطلق تحديدًا جاء التعاون السعودي - الأمريكي في ملف الذكاء الاصطناعي خلال زيارة واشنطن، حيث اتفقت المملكة والولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز الشراكة في البنية التحتية الرقمية والطاقية التي ستدعم الجيل القادم من الحوسبة المتقدمة.
ويستند هذا التعاون إلى رؤية مشتركة تعتبر أمن الطاقة الجديد لا يقتصر على النفط والغاز، بل يشمل أيضًا القدرة على تشغيل الذكاء الاصطناعي وتوفير الكهرباء التي تحتاجها مراكز البيانات. وتم التأكيد في الاجتماعات الرسمية على دعم مشاريع سعودية في الحوسبة الفائقة، والعمل على جذب شركات التكنولوجيا الأمريكية للاستثمار في السعودية ضمن منظومة تعتمد على الغاز غير التقليدي من الجافورة، والطاقة الشمسية والرياح، والمشاريع النووية المستقبلية.
وتتحرك السعودية داخل هذا الإطار عبر ثلاثة مسارات واضحة: بناء مراكز بيانات تعتمد على الغاز والطاقة المتجددة، وتوفر قدرة تشغيل ثابتة بتكاليف تنافسية، دمج الحوسبة المتقدمة داخل القطاعات الصناعية مثل الهيدروجين والبتروكيماويات وإدارة الشبكات، بما يعزز قدرة الصناعة على التنبؤ وتحسين الكفاءة، والاستثمار في شركات التقنية والشرائح الأمريكية والعالمية لتكون المملكة جزءًا من سلسلة القيمة التكنولوجية، لا مجرد سوق مستهلكة.
وبهذا التعاون، لا تُقدَّم السعودية بوصفها دولة تستخدم الذكاء الاصطناعي فحسب، بل كدولة تمتلك الموارد الطاقية التي يحتاجها تشغيله، وشريك أساسي في التطور التكنولوجي الذي يُعاد تشكيله عالميًا.
الهيدروجين
يمثّل الهيدروجين محورًا إستراتيجيًا لرؤية السعودية، بوصفه أحد أهم ركائز منظومة الطاقة المستقبلية القادرة على إعادة تشكيل الصناعات العالمية خلال العقود المقبلة. وتملك السعودية اليوم أحد أكبر مشاريع الهيدروجين الأخضر في العالم داخل نيوم بطاقة تصل إلى 600 طن يوميًا، فيما تقود أرامكو تطوير مسارات الهيدروجين الأزرق والأمونيا الزرقاء، مع تجارب توريد فعلية لأسواق مثل اليابان وكوريا.
وخلال زيارة ولي العهد إلى واشنطن، برز ملف الهيدروجين بوصفه أحد محاور التعاون المباشر بين المملكة والولايات المتحدة، حيث أكدت البيانات الرسمية الصادرة عن البيت الأبيض ووزارة الطاقة الأمريكية وجود اتفاق على تطوير مسار مشترك للهيدروجين النظيف، يشمل تنسيق المعايير التقنية، وتسهيل الاستثمارات، وربط سلاسل الإمداد المستقبلية بين البلدين. ويمثل هذا الإعلان أول اعتراف أمريكي واضح بدور المملكة كلاعب رئيسي في اقتصاد الهيدروجين الذي تعمل الولايات المتحدة على بنائه خلال السنوات المقبلة.
هذا التطور يمنح السعودية قدرة تنافسية فريدة لتزويد الأسواق العالمية بوقود منخفض الانبعاثات، يمكن استخدامه في صناعات الحديد والبتروكيماويات والنقل الثقيل والطيران، إضافةً إلى دوره في مراكز البيانات وأنظمة التخزين طويل الأمد. كما تمنح موارد الجافورة والبنية الصناعية الحديثة والموانئ المتقدمة المملكة موقعًا مثاليًا لربط إنتاج الهيدروجين بالأسواق الدولية، وتحويله إلى قيمة اقتصادية عالمية متنامية.
ترسيخ دور المملكة في أمن الطاقة العالمي
تكشف زيارة واشنطن أن السعودية تدخل مرحلة جديدة من قيادة مشهد الطاقة العالمي، مرحلة صاغ ملامحها ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان برؤية إستراتيجية أعادت تعريف موقع السعودية في الاقتصاد الدولي. فقد وضع من موقعه في قيادة الدولة إطارًا شاملًا لمنظومة طاقة متقدمة تجمع بين النفط والغاز والهيدروجين والطاقة النووية السلمية والمعادن والذكاء الاصطناعي، ورسّخ دور المملكة كلاعب لا يمكن تجاوزه في تشكيل أسواق المستقبل.
وتترجم هذه الرؤية على يد الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة، الذي أثبت خلال السنوات الماضية أنه ليس مجرد مسؤول تنفيذي، بل قائد لمنظومة طاقة كاملة وصاحب البصمة الأوضح في صياغة سياسات دقيقة وفعّالة. فقد حوّل التوجهات الكبرى إلى منظومة تنفيذية محكمة، تربط بين الابتكار والتقنية، وبين استقرار الأسواق وموثوقية الإمدادات، وبناء صناعات جديدة تمتد من الهيدروجين إلى الطاقة النووية السلمية إلى المعادن الإستراتيجية.
ولم يكتفِ بإدارة الملفات اليومية، بل أعاد تشكيل قطاع الطاقة كاملا عبر قدرة تفاوضية عالية ورؤية اقتصادية وفنية جعلت السعوديه نقطة الارتكاز في أي نقاش عالمي حول مستقبل الطاقة.
وبفضل هذا التكامل بين قيادة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان وحنكة وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان، تحوّلت السعودية إلى منظومة طاقة متقدمة تتحرك بثقة، وقادرة على قيادة التحول في الطاقة التقليدية والطاقة الجديدة معًا. هذا الانسجام بين الرؤية السياسية والاحترافية الفنية صنع نموذجًا فريدًا في المنطقة، وجعلها مركز الثقل وصوت الموثوقية في عالمٍ يبحث عن الاستقرار والمعايير الواضحة.
مهندسة بترول وباحثة في اقتصادات الطاقة
