سلطان السعد القحطاني
@SultanAlsaadQ
بين المتنبي وآدم سميث قرون طويلة من التحولات، وسقوط إمبراطوريات وصعود أخرى، لكنهما بالنسبة إليّ من رفاق الدهر الذين لا تتجاوزهم اللحظة ولا يبطل أثرهما الزمن. أحدهما شكّل خيال اللغة، والآخر أعاد تشكيل خيال العالم.
أتذكر تمامًا ذلك اليوم الذي أطللت فيه شابًا يدرس "إستراتيجيات التجارة الدولية" على كتاب ثروة الأمم. كنت آتي من عالم الشعر والكتابة والصحافة، متوجسًا من هذا الكتاب الضخم الذي قيل لنا إنه سيكون رفيق سنواتنا المقبلة في عالم الاقتصاد والعولمة. وفي مكتبة "ووترستون" العتيقة في لندن، وقفت أمام حجمه المهيب وأشفقت على رحلتي الأكاديمية المقبلة. لكنها كانت رحلة ممتعة، تكشف عقلًا لم يعد مرتبطًا بحياتي وحدي، بل بحياة هذا العالم كله وبتحولاته المتعاقبة.
على مقاعد الدراسة كنّا نبحر في عالم آدم سميث، ذلك الأسكتلندي الهادئ الذي يشبه المتنبي في قدرته على البقاء والتجدد. كل جيل يظن أنه تجاوزه، ثم يكتشف أنه لا يزال حيًا، يطل من وراء كل نقاش اقتصادي وسياسي. وكلما رأيت المواهب المشتتة والجهود المتفرقة حولي، تذكرت قاعدته التي لا تزال صالحة للحياة: الميزة المطلقة – Absolute Advantage. ليست مجرد نظرية في التجارة، بل قاعدة إنسانية في جوهرها: على الفرد كما على الدولة أن يحدد نقطة قوته، القيمة التي يمكن أن يضيفها للعالم.
الرأسمالية، في جوهرها، هي التطبيق الواسع لهذه الفكرة. قوتها تكمن في قدرتها على البقاء والتجدد، وفي تحولها من مجرد نظام اقتصادي إلى منظومة سياسية تتسرب إلى المجتمعات وتعيد تشكيلها. هي نظام يتوسع بهدوء وبلا أيديولوجيا متصلبة، لكنه ينجح فيما فشلت فيه كثير من الأيديولوجيات السياسية: تغيير القناعات وتعديل التطلعات وصناعة مقارنات لا ترحم.
يكفي أن نتذكر أن جدار برلين بدأ بالانهيار قبل سقوطه الفعلي بسنوات طويلة. لم تسقطه فقط الاحتجاجات ولا الصراعات الداخلية، بل أسقطه التلفاز المتوهج في بيوت ألمانيا الشرقية، حين رأى الناس هناك نموذجًا اقتصاديًا قادرًا على توليد الازدهار والاستمرار. كان المشهد كافيًا لنسف الأساس المعنوي للنظام الاشتراكي.
واليوم يتكرر الصدى ذاته في آسيا. كوريا الشمالية تقف أمام جارتها الجنوبية كما وقفت ألمانيا الشرقية أمام الغربية. الفرق في نمط الحياة والدخل والحرية الاقتصادية ليس مجرد فجوة اقتصادية؛ إنه تهديد سياسي كامل. الرأسمالية هنا ليست نظامًا اقتصاديًا فحسب، بل قوة تُزعزع الثبات وتطرح أسئلة وجودية على الأنظمة المغلقة.
هكذا يتبين أن آدم سميث لم يكن مجرد اقتصادي عظيم، بل صانع سياسة من نوع آخر. رجل وضع مبادئ بسيطة، لكنها امتدت لتصبغ العالم شيئًا فشيئًا بلون جديد. بينه وبين المتنبي خيط خفي: كلاهما زرع فكرة تستطيع أن تتجاوز زمانها، وتستمر في حياة البشر قرنًا بعد قرن.
لقد غيّر المتنبي طريقة رؤيتنا للغة، وغيّر آدم سميث طريقة رؤيتنا للعالم. والأفكار العظيمة، كما نعلم، لا تشيخ.
كاتب ومستشار إعلامي
