د نوف البلوي
في السنوات الأخيرة أصبح واضحاً أن العالم لم يعد يعتمد على المنظمات الدولية لصياغة اتجاهاته الاقتصادية كما كان يحدث في السابق. المؤسسات التي شكّلت تاريخياً مرجعية للتوافق، مثل منظمة التجارة العالمية (WTO)، أصبحت أقل قدرة على جمع الأطراف وصناعة حلول مشتركة، مع صعود الحمائية (Protectionism) وتراجع فعالية التعددية (Multilateralism). هذا التراجع جعل الأسواق العالمية أكثر قلقاً، وترك فراغاً في “الجهة المرجعية” التي كانت تمنح المستثمرين شعوراً بالاتجاه العام.
وفي هذا الفراغ تحديداً برزت منصات غير حكومية تجمع النخب الاقتصادية خارج إطار الدول. منصات مثل دافوس (World Economic Forum) أو ملتقى ميلكن (Milken Institute) لم تكتسب تأثيرها لأنها تمتلك ولاية قانونية، بل لأنها أصبحت المساحة التي تُبنى فيها التوقعات عندما تتراجع القدرة الرسمية على إنتاج حلول. المستثمر اليوم لا يبحث فقط عن بيانات، بل عن تفسير واتجاه، وعن من يمنحه إطاراً ذهنياً يساعده على فهم ما القادم، وأين يمكن أن تتكوّن الفرص.
ومع الوقت لم تعد هذه المنصات مجرد نقاط نقاش، بل أصبحت تُعامل باعتبارها بنية مكمّلة لنظام اقتصادي عالمي يعاني ضعف التنسيق الرسمي. وهنا يظهر الدور السعودي داخل نفس الظاهرة، لا كبديل فجائي، بل كامتداد لها بطابع مختلف. فقد قدّمت الرياض عبر مبادرة مستقبل الاستثمار (Future Investment Initiative – FII) نموذجاً أكثر اقتراباً من التنفيذ، حيث لم تكتفِ بصياغة تصوّر أو ربط شبكات رأس المال، بل دمجت بين الرؤية والتمويل والسياسة الاقتصادية الفعلية. فبينما ينتج دافوس لغة خطاب عالمي، ويربط ملتقى ميلكن شبكات رأس المال الخاص (Private Capital)، تقدّم الرياض صيغة تقوم على فكرة + رأسمال سيادي (Sovereign Capital) + مشاريع قابلة للتحقق على الأرض ضمن أفق زمني طويل المدى. وبهذا المعنى، هي لم تدخل في سباق “من يشبه من”، بل قدّمت درجة مختلفة من نفس المسار.
وهذا التحول ليس عنصرًا نظريًا فقط، بل يمكن رصده من خلال حركة رأس المال نفسه. فخريطة الاستثمار العالمية لم تعد تُصنع في اتجاه واحد كما حدث في عقود “العولمة التقليدية”، بل أصبحت تتوزع بين مراكز قوة جديدة تتشكل في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا.
ومع صعود التمويل السيادي، وتحوّل جزء من الابتكار الاقتصادي من الغرب إلى الجنوب، أصبحت القدرة على صياغة الاتجاه الاستثماري مرتبطة أكثر بالجهات التي تستطيع أن تربط بين الرؤية والتنفيذ، وليس فقط بين الرؤية واللغة. وهنا يبدو طبيعيًا أن تتجه الأنظار إلى الرياض ليس باعتبارها “موقع مؤتمر”، بل باعتبارها مركز قرار اقتصادي يتعامل مع المستقبل كمساحة بناء لا مساحة تنظير.
وبذلك لا يبدو هذا التحول كأنه صراع على من “يزيح الآخر”، بقدر ما هو انتقال تدريجي في تعريف وظيفة المنصات الاقتصادية نفسها. فالعالم اليوم لا يبحث عمّن يصف له المستقبل فقط، بل عمّن يملك القدرة على جعله ممكنًا. المنصة الأكثر تأثيرًا لم تعد تلك التي تقدّم أجمل خطاب، بل تلك التي تستطيع أن تربط الفكرة بفعل، والرؤية بمشروع، والمشروع بواقع ملموس.
وفي هذا السياق، تصبح الرياض مثالًا على نموذج مختلف داخل هذه المنظومة، نموذج يقترب أكثر من “تنفيذ المستقبل” بدلًا من “وصفه فقط”. وهذا ما يجعل حضورها ليس مجرد إضافة جغرافية، بل إشارة إلى أن اتجاه التأثير العالمي بدأ يتحرك نحو من يستطيع أن يقدّم نتائج، لا نحو من يتقن إدارة الحوار فقط.
مستشار في الشؤون الدولية والإستراتيجيات العالمية
