د. محمد آل عباس
كان يمكن لاتفاقيات التنقيب عن النفط مع البريطانيين بين الأعوام من 1923 وحتى 1933 أن تؤخر النهضة السعودية حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية بل أكثر، فقد انتهى عقد امتياز التنقيب عن النفط الذي منحه الملك عبدالعزيز للشركة البريطانية "EGS" دون أي اكتشافات، وهذا كفيل بأن يتراجع الملك عبدالعزيز عن طموح البحث عن النفط في تلك الأعوام الخالية من أية محفزات اقتصادية عالمية، أضف لذلك أن البلاد بالكاد خرجت من صراعات توحيد البلاد وتم إعلان المملكة العربية السعودية كدولة واحدة 1932، لكن توفيق الله للملك عبدالعزيز مع ما منحه من حكمة اقتصادية، وحنكة سياسة، جعلته يتمسك بفكرة البحث عن النفط ولم يتراجع كما اقترح البريطانيون وهم قادة العالم حينها، بل اتجه إلى مالم يتوقعه أحد في تلك السنوات، نحو الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تنأى بنفسها عن مشكلات العالم باقتصاد عملاق يكفي شركاتها لقرن كامل.
وحقيقةً فإن هذا القرار التاريخي للمؤسس لم يُدرَس كما ينبغي حتى اليوم، فالبدائل الواسعة في ذلك الوقت بدءا من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، بل الاتحاد السوفييتي ودول عديدة تعمل شركاتها في مجال النفط، اختار الملك عبدالعزيز الولايات المتحدة الأمريكية بالذات كشريك إستراتيجي لعقود مقبلة.
وهذا القرار يتطلب مع الحكمة والدهاء السياسي، قدرة استشرافية كبيرة في وقت لم تكن أدوات مثل هذا الاستشراف متاحة، فالاستقراء للقرار الحكيم يدل على أن القوى التي كانت تهيمن على العالم حينها وترسم نفسها كقوى اقتصادية وسياسية تتحكم في مصائر العالم، لم تكن من بينها الولايات المتحدة التي عزلت نفسها عن هذه الصراعات، كما أن قرار التحول كان نابعا من حقيقة فشل البريطانيين في اكتشاف النفط.
وكان من المتوقع أن يفشل الأمريكيون كذلك لأنهم من المدرسة البريطانية نفسها، بل إن الأمريكيين في سنة الاتفاقية كانوا في مخاض الكساد الكبير، لذلك أقول إن اختيار الملك عبدالعزيز للولايات المتحدة كشريك إستراتيجي قد جاء بلا شك بعد تأمل ودراسة أثبتت السنوات القليلة التي تلت توقيع الاتفاقية التاريخية مع شركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" الأمريكية في مايو 1933، ومهدت الطريق لاكتشاف النفط التجاري في بئر الدمام رقم 7 عام 1938، أن قرار الملك عبدالعزيز كان صحيحا، بل إستراتيجيا ومهما، وأنه قد وضع مصالح بلاده ومستقبلها وشعبها قبل أي تحيزات أو انطباعات شخصية.
ويكفي أن تعرف بأن اكتشاف النفط كان قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنة واحدة فقط، ولك أن تتصور لو أن الملك عبدالعزيز قد اختار أي دولة أخرى بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية، ما الذي كان سيحدث لمشروعه العظيم؟.
خرجت الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة في الحرب العالمية الثانية، وليس ذلك فحسب، بل الأقوى والأغنى بين دول العالم، وشعبها الأكثر ازدهارا وصناعتها الأكثر تنوعا وجودة وعملتها الأكثر قوة، في المقابل كانت السعودية في حالة سياسية ممتازة للغاية بعد أن تجنبت ويلات الحرب، ولكنها تواجه تحديات اقتصادية داخلية وتحديات سياسية إقليمية كبيرة وتحتاج من ضمن أمور كثيرة لتموضع سياسي عالمي واضح.
وهنا تأتي لمحة من ملامح عبقرية الملك المؤسس عندما أخذ العلاقات السعودية - الأمريكية نحو مسارات غير مسبوقة، فتجنب الوقوع السياسي وانهيار منظومة النظام العالمي حينها والحرب الباردة التي ظهرت في شكل موجات من التقلبات السياسية والفكرية في المشهد العربي والإسلامي عموما وركز على المستقبل فقط بتعزيز العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وحقق ذلك باجتماعه التاريخي مع الرئيس الأمريكي روزفلت ليرسم شكل العلاقة الثنائية بما يحقق مصالح الشعب السعودي وطموحاته في العلم والازدهار.
وقد استخدم الملك عبدالعزيز مسألة النفط كمرتكز لبناء العلاقة المتوازنة، فحققت السعودية سيطرة متدرجة على مواردها النفطية بالاستحواذ المتدرج على شركة النفط (أرامكو) وحتى سيطرت عليها بالكامل بحلول 1980، بعدها كان لا بد من رسم خطوط جديدة للعلاقة السياسية والاقتصادية تضمن للمملكة وصولا سهلا للأسواق الأمريكية مع ضمان استقلال القرار السياسي.
فالسعودية تضع القضية الفلسطينية في أولوياتها والصراع العربي الإسرائيلي يؤثر بشكل مباشر في العلاقات السعودية - الأمريكية خاصة في أعقاب حرب أكتوبر وبروز القوة والنفوذ السعودي الهائل على أسعار النفط العالمية، لهذا توالت اللقاءات والزيارات بين البلدين بدءا بزيارة الملك سعود 1957 واستقبله الرئيس أيزنهاور في واشنطن، كأول زيارة يقوم بها ملك سعودي للولايات المتحدة، التي مهدت الطريق لزيارات عدة بين البلدين وعقد عدة قمم تاريخية منها زيارة الملك فيصل ثم الملك خالد ثم الزيارة التاريخية للملك فهد 1985 التي عقد فيها قمة تاريخية مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، ثم زيارات الملك عبدالله في أعوام مختلفة، ثم القمة التاريخية للملك سلمان في 2015، وإذا كانت كل الزيارات التي تمت تؤكد على عمق العلاقات في مجالات عدة، فقد أكدت زيارة الملك سلمان للولايات المتحدة واستقبله فيها الرئيس باراك أوباما حينها أن المملكة العربية السعودية هي القائد الفعلي لكل العالم العربي والإسلامي ولن يمضي اتفاق ولا مسار بدون تأييدها.
وخلال عقد كامل منذ اندلاع الفوضى في العالم العربي وما صاحب ذلك من أزمات، أثبتت السعودية أنه لن يمضي مسار ولن تمر أجندة لن تكون في مصلحة العرب عموما، وأن السعودية قادرة على حماية نفسها بنفسها، وقادرة على حماية مصالحها، لكنها تفضل دوما المسارات السياسية والتفاهمات الدولية الكفيلة بنزع فتيل الأزمات وتضمن مصالح الشعوب والعيش بسلام مع كافة الشركاء.
هكذا تأتي زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء للولايات المتحدة الأمريكية واليوم بدعوة من الرئيس دونالد ترمب في ظل نجاحات سياسية كبيرة أثمرت عن رفع العقوبات الاقتصادية عن سورية واعترافات دولية بالدولة الفلسطينية.
وهذه الزيارة وإن كانت ليست الأولى للأمير محمد بن سلمان للولايات المتحدة، لكنها تحظى باهتمام دولي كبير، ليس للعلاقة الشخصية البارزة بينه وبين والرئيس ترمب فحسب، بل لأن الملفات المطروحة هذه المرة تمثل تحديا إستراتيجيا، فالمملكة تسعى لتعزيز قوتها العسكرية بمقاتلات أكثر تقدما، مع نشر منظومة من الدفاعات الجوية نظرا للمخاطر المتزايدة في العالم، ولا تزال القضية الفلسطينية محورية في الخطاب السعودي وتتطلب تقدما ملحوظا، إضافة إلى الاستثمارات بين الجانبين، فالمملكة التي تسير بخطوات ثابتة في تحقيق رؤيتها 2030 لديها أحداث اقتصادية مهمة تريد الولايات المتحدة أن تصبح شريكا فيها مثل إكسبو الرياض 2030 وكأس العالم لكرة القدم 2034، وهناك استثمارات واعدة في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي مع تحول إستراتيجية صندوق الاستثمارات العامة الذي أصبح واحدا من أكبر الصناديق السيادية في العالم.
في المحصلة، تطورت العلاقات بين الرياض وواشنطن من علاقة اقتصادية ترتكز على النفط إلى علاقة إستراتيجية متقدمة متعددة المحاور، وتؤكد نتائج كل اللقاءات التاريخية أن السعودية هي القوة الإقليمية القادرة على حماية مصالحها وتوجيه مسارات المنطقة، وأن نجاح رؤيتها 2030 التي تضع الإنسان السعودي في مقدمة أولوياتها هي البوصلة التي ترسم مسار العلاقات الإستراتيجية.
