محمد الماضي
يشهد الاقتصاد العالمي تحولا هيكليا مع تسارع نمو الطاقة البديلة التي باتت خلال سنوات قليلة أحد أعمدة النمو الصناعي والاستثماري. وحسب تقرير من Ember Energy ،أنه جرى توليد نحو 40% من كهرباء العالم في 2024 من مصادر غير نفطية، ما يظهر انتقال الاقتصاد العالمي إلى نموذج طاقة متنوع وأكثر استدامة، يحد من تأثير تقلبات أسعار النفط في النمو.
تعتبر الطاقة الشمسية من أسرع المصادر نموا عالميا، فقد استحوذت الصين وحدها على أكثر من نصف الزيادة في القدرة الشمسية خلال ،2024 بينما ضاعفت الهند إنتاجها في عام واحد. ورغم الزخم لا تزال الشمس تمثل نحو 7% من الإمدادات العالمية مقابل 8% للرياح و14% للكهرومائية و9% للنووية، ما يعني أن مساحة التوسع لا تزال كبيرة خلال العقد المقبل.
يتجاوز أثر التحول قطاع الكهرباء إلى النقل والتصنيع. في الصين شكلت السيارات الكهربائية نحو نصف المبيعات الجديدة في 2024 بدفع من الحوافز الحكومية والبنية التحتية للشحن والتكامل الصناعي من المواد الخام إلى التصدير. وتنتج الصين أكثر من 70% من السيارات الكهربائية عالميا لتصبح مركزا متكاملا لسلاسل القيمة من البطاريات إلى التجميع والتوزيع.
هذا الاتساع رفع الطلب على المعادن الحيوية خصوصا الليثيوم والكوبالت والنيكل، وأطلق ما يعرف باقتصاد المعادن الخضراء بوصفه محورا إستراتيجيا في النظام الاقتصادي الجديد.
تحول الليثيوم إلى العصب الصناعي لتقنيات البطاريات وتخزين الطاقة، مكتسبا مكانة مورد إستراتيجي توازي النفط في القرن الماضي. وتستحوذ الصين على أكثر من 70% من قدرات معالجة الليثيوم عالميا، ما يمنحها نفوذا اقتصاديا وجيوسياسيا كبيرا في أسواق الطاقة النظيفة، تشبه في أثرها دور أوبك في سوق النفط خلال العقود الماضية.
و في المقابل تعمل الاقتصادات الغربية على تنويع سلاسل الإمداد وبناء قدرات محلية وإقليمية، سواء عبر استثمارات تعدين جديدة أو إعادة تدوير البطاريات أو تطوير بدائل كيميائية تقلل كثافة استخدام المعادن النادرة.
وفي المنطقة تتقدم السعودية إلى موقع فاعل عبر إستراتيجية توازن بين النفط والتقنيات النظيفة، فيما تقود أرامكو هذا المسار بدور محوري يعيد تعريف تموضع المملكة في قطاع الطاقة العالمي. تخطط الشركة لنحو 55 مليار دولار في 2025 لمشاريع الغاز والطاقة المتجددة، وتشمل مبادرات الأمونيا الزرقاء ومشاريع مرتبطة بسلاسل الليثيوم الداعمة للهيدروجين.
وبالتوازي تسهم استثمارات نحو 30 مليار دولار في مشاريع متجددة بالتعاون مع صندوق الاستثمارات العامة وشركاء آخرين في تعميق القاعدة المحلية للهيدروجين الأخضر.
في مسار التصنيع المتكامل، يمضي مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر بخطى متسارعة نحو التشغيل التجاري، بطاقة إنتاجية تصل إلى نحو 600 طن يوميًا من الهيدروجين يتم تحويلها إلى أمونيا خضراء للتصدير، ضمن استثمار تبلغ قيمته 8.4 مليار دولار تقوده شركة أكوا باور وشركة إير برودكتس وشركة نيوم.
وعلى صعيد التقنية أكد الرئيس التنفيذي لأرامكو في مقابلة مع شبكة CNBC أن الشركة حققت في 2024 قيمة من استثماراتها التقنية تقارب 4 مليارات دولار كان جزء واضح منها بفعل تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الصناعية، ما دعم الكفاءة وخفض البصمة الكربونية.
ومع استمرار زخم هذا التحول، من المرجح أن يبدأ الطلب على النفط في التباطؤ ثم الضعف تدريجيا خلال النصف الثاني من هذا العقد، مدفوعا بتوسع السيارات الكهربائية وتحسن كفاءة المحركات وزيادة كهربة الاستهلاك وتشدد سياسات الحياد الكربوني. ورغم أن قطاعات مثل البتروكيماويات والطيران ستظل داعمة للطلب في المدى القريب، فإن الاتجاه الهيكلي يشير إلى تسطح ثم تراجع استهلاك الوقود السائل في النقل البري.
وهكذا ، لم يعد مشهد الطاقة مربوط ببرميل النفط وحده، بل بمن يملك القدرة على الجمع بين التقنية والمعرفة ورأس المال الصناعي. التحول الجاري لا يلغي دور النفط، لكنه يعيد صياغة معناه ضمن منظومة أوسع تربط الوقود بالبيانات والهيدروجين والمعادن والذكاء الاصطناعي.
وبينما ترسخ الصين مركزها في البطاريات والليثيوم، تبني السعودية موقعها في الهيدروجين والطاقة المتكاملة، لتصبح معادلة النفوذ في القرن الحادي والعشرين قائمة على من يملك منظومة الطاقة لا مجرد مصدرها.
