سلمان الجشي
في ضوء مقالي السابق "تمكين الصناعة .. رهاننا لمواجهة المستقبل"، تلقيت رسالة من عمي وأستاذي الدكتور جميل الجشي "اعتقد ما تحتاجه الصناعة في السعودية إضافة إلى ما تفضلت به هو إعادة إنشاء مركز الأبحاث والتنمية الصناعية بما يتوافق والحاضر".
أنشئ مركز الأبحاث والتنمية الصناعية في الستينيات الميلادية كأحد اللبنات الأولى لتأسيس قاعدة علمية وتقنية تدعم الصناعة الوطنية . كان المركز يقوم بدورٍ محوري في ربط المعرفة بالتطبيق الصناعي، إذ لم يكن مجرد جهة بحثية، بل ذراعاً تنفيذية تعمل جنباً إلى جنب مع المصانع، وتقدم حلولاً تقنية وتشغيلية مباشرة.
ومن أبرز ما تميز به ذلك النموذج هو تعيين مسؤول علاقة لكل مصنع، يزورون المواقع بشكل دوري، ويتابعون الأداء، ويعملون على حل المشكلات الفنية والتشغيلية، بما يشبه مفهوم “مديري الحسابات ” المعمول به في البنوك اليوم.
هذا النهج العملي مكّن المصانع من تحسين كفاءتها واستدامتها، وربطها مباشرة بمصادر الدعم الفني والتمويلي. اليوم، مع تطور البيئة الصناعية في المملكة ووصول عدد المصانع إلى أكثر من 10 آلاف مصنع تصبح الحاجة ماسة لإحياء تلك الفكرة ولكن بروحٍ عصرية.
إعادة إنشاء مركز الأبحاث والتنمية الصناعية يجب ألا تكون مجرد استذكار لتاريخ ناجح، بل مشروعاً إستراتيجياً حديثاً يتكامل مع مبادرات وزارة الصناعة، ويستفيد من التحول الرقمي والتقنيات الحديثة، بحيث يصبح منصة وطنية للابتكار الصناعي والبحث التطبيقي، تربط بين المصانع والجهات ذات العلاقة.
تطرح وزارة الصناعة والثروة المعدنية اليوم عدداً من المبادرات النوعية التي تنسجم مع فكرة المركز، منها: برنامج مصانع المستقبل .. الذي يستهدف تحويل 4000 مصنع إلى نماذج تشغيلية متقدمة تعتمد على الأتمتة والكفاءة، وهو ما يتطلب شراكة بحثية واستشارية مستمرة لدعم التحول التقني، مبادرة التصنيع إضافة إلى: التي تهدف إلى تطوير صناعة محلية في مجال التصنيع الرقمي، وهي بحاجة إلى مركز وطني ينسق جهود التدريب والتبني التقني.
مبادرة استدامة الصناعة: الهادفة إلى إنقاذ المصانع المتعثرة وتقديم حلول متكاملة لها، وهو دور تاريخي كان يقوم به المركز في مراحله الأولى من خلال الدراسات والحلول الفنية . إن الربط بين هذه المبادرات ومفهوم “مسؤولي العلاقة الصناعية” سيعزز التواصل الفعّال مع المصانع، ويجعلها تستفيد من البرامج المتاحة، تماماً كما يحدث في المؤسسات المالية المتطورة.
اقتراح الدكتور جميل الجشي بإعادة إنشاء المركز يتجاوز الجانب الرمزي، فهو يعيد الاعتبار لمنهجٍ أثبت نجاحه:
أن التنمية الصناعية لا تقوم فقط على التمويل أو القوانين، بل على المعرفة التطبيقية والشراكة بين البحث والإنتاج. ومع التحولات الراهنة في برامج رؤية 2030، فإن إنشاء مركز أبحاث وتنمية صناعية جديد، متصل رقمياً بكل مصنع، ويعمل ضمن منظومة متكاملة من الكفاءات والخبراء ومسؤولي العلاقة، سيشكل رافعة حقيقية لتمكين الصناعة السعودية ورفع تنافسيتها عالمياً.
ما بين تجربة الستينيات وروح المستقبل، يتجدد السؤال: هل يمكن أن نعيد اليوم ذلك الفكر المتقدم بروحٍ جديدة ؟ الإجابة تبدأ بخطوة عملية تتمثل في إعادة إنشاء مركز الأبحاث والتنمية الصناعية كجسر بين العلم والتطبيق، والسياسات والمصانع، والماضي والمستقبل. ففي عالمٍ يتغير بسرعة، لا بد أن نستلهم من التاريخ ما يُعيننا على بناء غدٍ صناعيٍ أقوى وأذكى.
كاتب اقتصادي ورجل أعمال
