دانية أركوبي
لم تعد وظائف المعدن الأصفر تقتصر على كونه أداء للتحوط من التضخم والصدمات، إنما مرآة نرى من خلالها وضع العالم السياسي والاقتصادي. فحتى غير الملمين بعلوم الاقتصاد وتحليل المخاطر، أصبح الذهب مؤشر لهم على الوضع الحالي أو التوقعات المستقبلية. فسعر الذهب يرتفع خلال فترة عدم اليقين لأنه نادر، وموثوق، ومستقل عن الحكومات أو الأسواق.
بالتالي فأن الأمر لا يتعلق بالثراء بقدر ما يتعلق بعدم خسارة ما لديك بالفعل. فعندما نشهد ارتفاعًا، يكون ذلك انعكاسًا لعدم اليقين. وهناك الكثير من عدم اليقين في الوقت الحالي.
2025 كان الأكثر جدية لتلك النظرية. فمنذ سنوات لم يعش كوكبنا هذا الكم من الصدمات، على المستوى الجيوسياسي استمرت النزاعات في التوسع، بل وامتدت إلى مناطق جديدة. على المستوى الاقتصادي فالمؤسسات الكبرى ما زالت تحظر من انكماش في النمو، بجانب أن مخاطر التضخم الجامح تستمر قائمة، إضافة إلى ارتفاع في مستويات البطالة مع ضعف الاستهلاك وتباطؤ ربحية الشركات.
كان العام استثنائي للتجارة، حيث شهد مستويات غير مسبوقة في القرن الحالي من الحمائية التجارية وفرض الرسوم الجمركية بين مختلف الأطراف، وهو ما يلقي بأعباء على النمو الاقتصادي، وحتى الوصول إلى تهديد نظام العولمة الاقتصادية القائم على حرية التجارة. البنوك المركزية قائدة السياسات النقدية لم تكن بمعزل، حيث تبنت كثير من البنوك دورة تيسير نقدي، وقامت بخفض الفائدة على أدواتها النقدية كالسندات وهو ما عزز من جاذبية الذهب.
كافة الأحداث المذكورة دفعت الذهب لكسر أرقام قياسية غير مسبوقة، محققاً ارتفاع منذ بداية عام 2025 إلى نهاية الربع الثالث (30 سبتمبر) بنسبة 47%، لتتجاوز أسعار العقود الآجلة للأونصة مستوى 3,873 دولار. مع توقعات بأن تكسر مستويات الأسعار حاجز 4 آلاف دولار بنهاية 2024.
هذا الزخم ليس نابع عن عمليات مضاربة، إنما انعكاس لوضع مضطرب يعيشه العالم، فإذا نظرنا لجانب الطلب على الذهب نجد أنه طلب متكامل أي يشمل جميع الوكلاء المؤثرين في السوق، من الأفراد إلى المستثمرين وصولاً إلى الحكومات ممثلة في البنوك المركزية.
فالمستهلكين وبخاصة في الأسواق الناشئة الذين اكتووا بالتضخم الجامح بعد اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وأدى إلى تآكل القدرة الشرائية لمدخراتهم، يرون اليوم ان السيناريو يتجدد وبقوة مضاعفة. من هنا بالنسبة لهم الحل لتجنب سيناريو كارثي جديد، تنهار فيه أسعار العملات المحلية وتقفز فيه أسعار السلع هو الاتجاه للملاذ الآمن التاريخي الممثل في الذهب.
الأمر لم يتوقف عند الأفراد، فانخفاض أسعار الفائدة، والمخاطر حول أسواق الأسهم مع تنامي الصدمات الجيوسياسية والتجارية دفعت المستثمرين لضخ أموال هائلة في قطاع الذهب، وذلك بصورة مباشرة عبر صناديق الذهب المتداولة في المعدن النفيس. فوفقًا لبيانات مجلس الذهب العالمي، فقد وصل حجم التدفقات في صناديق الذهب المتداولة العالمية في الربع الثاني من 2025 إلى 3,616 طن، بمعدل زيادة وصل إلى 16.4% مقارنة بالربع الأول من 2024.
التغييرات في البيئة الاقتصادية الدولية كان لها دور مهم في زيادة الطلب على الذهب. حيث تسعى كثير من البنوك المركزية العالمية إلى تنويع احتياطاتها من النقد بهدف تحقيق جزء من الاستقلالية النقدية، وليكون بمنزلة حائط صد أمام ما هو متوقع وغير متوقع من الصدمات.
ففي النصف الأول من 2025 وصلت مشتريات البنوك المركزية من الذهب إلى 415 طنا، لتكمل بذلك مسيرة متصاعدة منذ 2022. ويقود عمليات شراء الذهب الدول النامية مثل الصين وتركيا.
ختامًا فإن الذهب لم يعد أصل فقط يستخدم للتحوط من التضخم، ولكن أصبح ترس أساسي في مشهد اقتصادي عالمي مرتبك، فمستهلكي ومستثمري وحكومات اليوم أصبحوا أقل ثقة في منتجات الثورة المالية وما خلقته من أزمات عصفت بكثير من الاستقرار المنشود، وبدأت في الاتجاه إلى معتقدات ما سبقوهم أن معيار الثروة والهيمنة يتمثل في امتلاك الذهب. ولكن ذلك الاتجاه له توابعه السلبية، فالذهب لا ينتج ولا يشغل ولا يمول، فهو أصل خامل على عكس الأدوات الأخرى كالأسهم والسندات.
مستشارة اقتصادية