محمد الماضي
يشهد القطاع الصحي في السعودية نقلة نوعية أصبحت فيها الاستثمارات محور التحول، يقودها القطاع الخاص عبر أدوات عدة، أبرزها الاندماجات والاستحواذات. ولا يأتي هذا المسار بمعزل عن التحول الأوسع في الاقتصاد السعودي، بل يعكس توجها واضحا لبناء قطاعات قادرة على النمو المستدام وتعظيم الأثر الاقتصادي. وفي إطار رؤية 2030، أُعيد تعريف القطاع الصحي من كونه قطاعا خدميا بالدرجة الأولى إلى كونه رافدا للناتج المحلي ومحركا لفرص الاستثمار والتوسع.
ارتفعت استثمارات القطاع الخاص في القطاع الصحي بوتيرة متسارعة؛ من نحو 20 مليار ريال قبل 3 سنوات إلى 30 مليار ريال في العام التالي، قبل أن تقفز في 2025 إلى نحو 133 مليار ريال. هذه القفزة لا تعكس مجرد تضخم في حجم التمويل، بل تحولا في منطق الاستثمار داخل السوق، من نمو تدريجي عبر بناء مستشفيات جديدة إلى توسع أسرع عبر الاستحواذ على أصول قائمة ودمجها ضمن كيانات أكبر وأكثر تكاملا، بما يرفع الكفاءة التشغيلية ويحسن العائد ويعزز هوامش الربحية.
هذا التوجه يتقاطع مع تقديرات رسمية تشير إلى أن حجم الفرص الاستثمارية في القطاع الصحي قد يصل إلى 330 مليار ريال حتى عام 2030، مع ارتفاع مساهمة القطاع في الناتج المحلي من 199 مليار ريال حاليا إلى 318 مليار ريال، على أن يسهم القطاع الخاص بنحو نصف هذا الرقم. هذه الأرقام تفسر تسارع وتيرة الاستحواذات باعتبارها الأداة الأسرع لتحقيق التوسع، مقارنة بالنمو العضوي الذي يتطلب وقتًا أطول ورأس مال أعلى.
في هذا الإطار، شهدت السوق صفقات استحواذ أسهمت في تطور خريطة السوق. من بينها استحواذ شركة دلة للخدمات الصحية على مستشفى المملكة والعيادات الاستشارية، في خطوة عكست توجها نحو تعزيز الحضور في مدينة الرياض وتوسيع قاعدة الخدمات التخصصية عالية القيمة. وتمثل هذه الصفقة نموذجا للنمو غير العضوي الذي يتيح التوسع السريع والاستفادة من بنية تشغيلية قائمة، بدلا من تحمل أعباء تأسيس أصول جديدة من البداية.
وفي السياق نفسه، جاء استحواذ شركة الحمادي القابضة على حصة 40% في شركة وريد الصحية ليؤكد أن التوسع لم يعد مقتصرا على المستشفيات، بل يشمل القطاعات المساندة ذات الهوامش الجاذبة، مثل المختبرات الطبية والرعاية الصحية المنزلية. هذا النوع من الصفقات يعكس توجها لبناء منظومات رعاية متكاملة، تقل فيها الاعتمادية على أطراف خارجية، وترتفع فيها كفاءة التشغيل والقدرة على التحكم في التكاليف وجودة الخدمة.
ورغم هذا الحراك، لا يزال القطاع الصحي الخاص في السعودية يضم عددا كبيرا من الشركات والمشغلين، ما يترك مساحة واسعة لمزيد من التوسعات والتطوير في القطاع. ووفق تقرير S&P Global Ratings، تبلغ حصة القطاع الخاص نحو 30% من عدد المستشفيات و23% من عدد الأسرة، وهي نسب تعكس استمرار انخفاض مستوى التركز في السوق مقارنة بحجم الفرص المتاحة. وتدعم هذه الصورة توقعات استمرار موجة الاستحواذات، مع تحسن هوامش الربحية وارتفاع الحصص السوقية وتحسن الكفاءة التشغيلية.
يصعب فصل موجة الاستحواذات عن طبيعة القطاع الصحي، فهو يتطلب إنفاقا رأسماليا عاليا ويعتمد على كفاءة التشغيل واستدامتها. لذا يأتي الاستحواذ كأداة عملية لرفع كفاءة التكاليف، وتحسين استغلال الأصول الطبية ورفع الطاقة التشغيلية، وتعزيز القدرة التفاوضية مع شركات التأمين، إضافة إلى تسريع التوسع في الخدمات التخصصية ذات العوائد الأعلى، وهي عناصر مهمة لتحسين العائد على رأس المال في قطاع بطبيعته طويل الأجل.
على المستوى العالمي، بلغت قيمة صفقات الأسهم الخاصة في قطاع الرعاية الصحية نحو 115 مليار دولار في 2024، في إشارة إلى اتساع موجة الاستثمار والصفقات في القطاع. ويتقاطع هذا التحول المحلي مع اتجاه عالمي أوسع، إذ يقدر حجم سوق الرعاية الصحية عالميا بنحو 9 تريليونات دولار، مدفوعا بارتفاع الإنفاق، وتسارع الابتكار الطبي، وتنامي حضور الحلول الرقمية والذكاء الاصطناعي في التشخيص والرعاية. وفي هذا السياق، تبدو السعودية مهيأة لاستقطاب مزيد من الاستثمارات، مستندة إلى سوق كبير، وإطار تنظيمي داعم، وطلب متنام على خدمات صحية أكثر تقدما.
والمؤشرات تقول بوضوح إن القطاع الصحي السعودي يمر بمرحلة إعادة تشكل، تتلاقى فيها زيادة الطلب مع مسار الإصلاحات واتساع فرص التوسع عبر الاستحواذات، بما يعزز قدرة القطاع على توليد قيمة مستدامة وعوائد طويلة الأجل، ويجعل الاستثمار فيه من الخيارات الأكثر جاذبية خلال السنوات المقبلة.
كاتب ومحلل في شؤون المال والأعمال
