محمد الماضي
يشهد قطاع التأمين العالمي زيادة مستمرة في حجم النشاط، لكن بوتيرة متفاوتة بين المناطق والفروع. ووفق تقرير التأمين العالمي 2025 الصادر عن شركة ماكنزي، بلغت أقساط التأمين على الأفراد في فرع الممتلكات والمسؤوليات نحو 1.1 تريليون دولار بعد نمو قدره 9.5% خلال 2022 و2023، إلا أن مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي بقيت عند 1.0% مقارنة بنحو 1.2% في 2019.
هذا التراجع النسبي يشير إلى أن القطاع، رغم توسعه بالقيمة الإجمالية، لم يستعد بعد كامل ثقله الاقتصادي قبل الجائحة. وفي الصورة الأشمل، تظهر تقديرات الصناعة أن حجم سوق التأمين العالمي بجميع فروعه يتجاوز 8 تريليونات دولار، وهو مستوى يؤكد أن صناعة التأمين أصبحت ركيزة مالية أساسية في دعم الاستقرار وتمويل النشاط الاقتصادي حول العالم.
في السعودية، يتحرك قطاع التأمين في مسار مختلف؛ فالمشهد لا يقتصر على نمو مستمر في حجم النشاط، بل يشهد إعادة تشكيل تدريجية مدفوعة بتوسع اقتصادي واسع، وتحسن تنظيمي، وتطور في سلوك العملاء. فقد سجلت السوق السعودية معدل نمو نحو 17% في 2024 على مستوى إجمالي الأقساط المكتتبة، وهو مستوى يفوق متوسط أسواق دول مجموعة العشرين ويظهر اتساع قاعدة العملاء في التأمين الصحي، وتأمين المركبات، وتأمينات الأعمال. واستمر هذا النسق في الربع الأول من 2025، حيث ارتفعت الأقساط إلى نحو 26 مليار ريال بنمو نحو 15% على أساس سنوي، ما يعزز أن السوق في مسار نمو تراكمي مستدام وليس حالة استثنائية مرتبطة بفترة واحدة.
هذا الأداء يظهر عوامل متداخلة تشمل توسع الأنشطة الاقتصادية، ونمو المشاريع في قطاعات متعددة، وارتفاع الوعي بأهمية الحماية التأمينية، إلى جانب التطور التنظيمي والرقمي الذي سهل الوصول إلى المنتجات ورفع معدلات التغطية.
وتشير تقديرات وكالة فيتش للتصنيف الائتماني إلى احتمال دخول السوق مرحلة من الاندماجات خلال العامين المقبلين، خصوصا بين الشركات الصغيرة والمتوسطة، نتيجة ضغط المنافسة وتباطؤ نمو الأقساط لدى بعض الشركات، إضافة إلى المتطلبات التنظيمية المرتقبة المرتبطة بإطار رأس المال القائم على المخاطر. (RBC)
هذا الإطار سيجعل رأس المال مرتبطا مباشرة بمستوى المخاطر الفعلية في الاكتتاب والاستثمار والتشغيل، ما يعني أن الشركات الأقل ملاءة ستجد نفسها أمام خيارين: تعزيز رأسمالها أو الاندماج ضمن كيانات أكبر وأكثر استقرارا.
وتعزز بيانات ستاندرد آند بورز جلوبال هذا الاتجاه، تظهر البيانات إلى تراجع عدد الشركات المدرجة بنحو 20% خلال السنوات الخمس إلى الست الماضية، من 34 شركة إلى 24 شركة. هذا التحول يظهر انتقال القطاع من مرحلة التعدد الكبير إلى مرحلة التركّز، حيث ترتفع حصة الشركات ذات الملاءة العالية والقادرة على الاستثمار في التقنية، والالتزام بالمعايير التنظيمية، وتطوير منتجات وخدمات أكثر كفاءة.
وفي اتجاه مشابه ، يتقدم قطاع إعادة التأمين ليصبح أحد أبرز القطاعات التي سوف يكون فيها النمو خلال الفترة المقبلة داخل السعودية. فقرار إلزام شركات التأمين بإعادة 30% من وثائقها محليا يرسخ قاعدة لتطوير سوق إعادة تأمين محلية أكثر عمقا وقدرة على الاحتفاظ بالمخاطر داخل الاقتصاد الوطني. وتشير تقديرات السوق إلى إمكانية وصول حجم قطاع إعادة التأمين إلى نحو 20 مليار ريال بحلول 2030، مدفوعا بتوسع المشاريع الكبرى، ونمو حجم الأعمال المؤمن عليها، وتزايد الخبرات الفنية لدى الشركات العاملة في القطاع. كما يسهم تطور القنوات الرقمية وارتفاع عدد شركات وساطة التأمين الإلكترونية إلى نحو 16 شركة في تعزيز كفاءة السوق وتوسيع خيارات العملاء.
الصورة العامة تعكس قطاعا يتحرك في مسارين متوازيين: توسع قوي يرفع حجم الأقساط، وتحولات تنظيمية وتقنية تعيد رسم خريطة السوق. وبينما تظهر بيانات ماكنزي أن بعض فروع التأمين عالميا لم تستعد بعد موقعها قبل الجائحة، تتقدم السعودية في الاتجاه المعاكس عبر رفع وزن التأمين داخل الاقتصاد، وتوسيع قاعدة المستفيدين، وتطوير البنية الرقمية والتنظيمية، وبناء قطاع إعادة تأمين محلي أكثر قدرة على الاحتفاظ بالمخاطر.
ومع استمرار التحولات الاقتصادية التي تقودها رؤية 2030، تبدو السنوات المقبلة مرشحة لمرحلة إعادة تشكيل فعلية لقطاع التأمين السعودي تجمع بين النمو، وتعزيز الكفاءة، وتحديث البنية التشريعية.
مختص في التمويل والتنظيم وأكاديمي.
