نشرت وكالة رويترز في الثامن من يناير 2025 خبرًا عن إتمام شركة أنترُو الأمريكية صفقة استحواذ على أصول شركة إتش جي إنرجي الخاصة في قطاع الغاز الطبيعي، في خطوة جاءت متماشية مع ما يشهده سوق الغاز الطبيعي المسال من ارتفاع في الطلب العالمي، مدفوعًا بزيادة الاستهلاك في الأسواق الآسيوية والأوروبية.
ويبدو الخبر، في ظاهره، امتدادًا طبيعيًا لنشاط الشركات الأمريكية في قطاع الغاز، إلا أنه يعكس في جوهره النهج الذي تتبناه الولايات المتحدة لتعزيز حضورها في أسواق الغاز، حيث تُترجم الشركات هذا النهج عبر التوسع والاستحواذ على أصول قائمة بهدف زيادة الإنتاج وتحقيق عائد اقتصادي سريع، عوضًا عن الاعتماد على خطط إنتاج طويلة الأجل.
وقد أسهم هذا النموذج في ترسيخ موقع الولايات المتحدة كمورد رئيسي في الأسواق العالمية، ضمن إطار تحكمه آليات السوق واعتبارات الربحية بالدرجة الأولى، دون الارتكاز إلى رؤية مركزية طويلة المدى.
ورغم ما يوفره هذا النهج من سرعة ومرونة، إلا أن الاعتماد الكامل على السوق يجعل إنتاج الغاز أكثر حساسية لتقلبات الأسعار وظروف التمويل، كما يحدّ من القدرة على بناء التزامات مستقرة ومستدامة، حيث تبقى قرارات التوسع أو التراجع مرتبطة بالجدوى الآنية أكثر من ارتباطها بإستراتيجية طويلة الأجل لإدارة المورد.
في المقابل، تتجه السعودية إلى تبنّي إستراتيجية مختلفة في إدارة الغاز الطبيعي، تنطلق من اعتبار هذا المورد جزءًا من منظومة اقتصادية أشمل، لا مجرد فرصة توسّع سريعة. ويأتي هذا التوجه تطبيقًا لإستراتيجية يقودها الأمير عبدالعزيز بن سلمان، وزير الطاقة، تقوم على الانضباط في القرار وحسن التقدير في التوقيت، بعيدًا عن منطق الاندفاع أو الاستجابة الظرفية لإشارات السوق.
وقد أكد أن الغاز في السعودية لا يُدار بوصفه مشروع توسّع سريع، رغم وفرة الاحتياطيات وتعدد الاكتشافات، بل تُبنى قراراته على أسس واضحة تشمل أمن الإمدادات، وكفاءة استخدام الموارد، وربط الغاز بالأولويات الوطنية قبل أي توجه خارجي. ويتجلى هذا النهج عمليًا في إدارة مشاريع الغاز الكبرى وفق مسارات زمنية طويلة المدى، وفي مقدمتها تطوير الجافورة بوصفه مشروع إحلال وكفاءة يخدم احتياجات الكهرباء والصناعة محليًا، لا استجابة ظرفية لارتفاع الطلب أو الأسعار.
كما ظهر ذلك في التوسع في إحلال الغاز محل النفط في توليد الكهرباء، وربط إمداداته بالقطاعات الصناعية والتحويلية، بعيدًا عن منطق السوق الفورية.
ويؤكد هذا المسار أن أي توسع في قطاع الغاز يجب أن يخدم الاقتصاد المحلي أولًا، لا أن يكون رهينة لتقلبات السوق أو ضغوط الأسعار قصيرة الأجل، بما يبرز إدارة واعية للمورد تقوم على الاستقرار والكفاءة، لا على الاندفاع رغم وفرة الموارد.
وفيما يتعلق بالحضور العالمي في أسواق الغاز، تتبنى السعودية دخولًا مدروسًا تقوده أرامكو من خلال الاستثمار في البنية التحتية، وتوقيع عقود طويلة الأجل، والشراكة في مشاريع تسييل الغاز.
ولا يقوم هذا الحضور على تعظيم الكميات المصدّرة، بقدر ما يركز على بناء موقع مستدام داخل سلاسل الإمداد العالمية، يحدّ من التعرض الكامل لتقلبات الأسعار. وفي هذا الإطار، لا تُعد العقود طويلة الأجل والبنية التحتية أدوات توسع كمي فحسب، بل وسائل لإدارة المخاطر وتعزيز موثوقية الدور الذي تؤديه السعودية ضمن منظومة الغاز العالمية.
ويميز هذا النهج السعودي عن نماذج أخرى تمتلك احتياطيات ضخمة لكنها مقيدة بعوامل سياسية أو جغرافية تحول دون تحويل هذه الموارد إلى نفوذ مستدام، أو نماذج بنت هيمنتها التصديرية المبكرة عبر التزامات طويلة الأجل حدّت لاحقًا من مرونتها في التكيف مع التحولات المستقبلية. كما تعتمد بعض الدول على السوق وحدها دون تخطيط مركزي طويل المدى، ما يجعلها أكثر عرضة لتقلبات الدورة الاقتصادية.
وممّا سبق، يتضح أن الاختلاف في إدارة الغاز لا يعود إلى حجم النشاط أو طبيعة السوق، بل إلى المنهج الذي تُبنى عليه القرارات. فبين نماذج تتحرك بدافع الاستجابة السريعة للطلب، وأخرى تُدار وفق رؤية أوسع لإدارة الموارد، يبرز التباين في ترتيب الأولويات وصياغة الخيارات. وتتجلى أهمية الانضباط في اتخاذ القرار وبناء السياسات على أساس الاستقرار والكفاءة، لا على مجاراة التحولات المؤقتة، بما يعزز قدرة الدول على إدارة مواردها بمرونة ومسؤولية في بيئة عالمية متقلبة.
مهندسة بترول وباحثة في اقتصاديات الطاقة وإستراتيجياتها
