تُعد الصحة من أهم ركائز التنمية المستدامة لأي مجتمع، إذ تمثل جودة النظام الصحي انعكاسًا مباشرًا على كفاءة السياسات العامة ورفاهية المواطنين. وفي ظل التطورات المتسارعة في مجالات الطب والتقنية وزيادة الطلب على الخدمات الصحية نتيجة النمو السكاني وتغير أنماط الحياة، أصبح من الضروري ألا تتحمل الحكومات وحدها عبء تقديم الخدمات الصحية، بل أن تتشارك المسؤولية مع القطاع الخاص والقطاع غير الربحي لبناء منظومة صحية متكاملة ومستدامة.
أولاً: دور القطاع الخاص في تطوير الرعاية الصحية: يُعد القطاع الخاص شريكًا رئيسيًا في رفع جودة الخدمات الصحية وتوسيع نطاقها. فبفضل مرونته الإدارية وقدرته على الابتكار والاستثمار، يستطيع المساهمة في تخفيف الضغط عن المستشفيات الحكومية، وتقديم نماذج تشغيل حديثة تعتمد على الكفاءة والتقنية.
في السعودية، على سبيل المثال، يشكل القطاع الخاص أحد الأعمدة الرئيسة في تنفيذ مستهدفات رؤية السعودية 2030، التي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع الخاص في الإنفاق الصحي من 25% إلى نحو 35%. وقد بدأت وزارة الصحة في تطبيق نموذج التشغيل المشترك (PPP)، الذي يسمح للقطاع الخاص بإدارة وتشغيل بعض المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية ضمن معايير محددة تضمن الجودة وسلامة المرضى.
من أبرز الأمثلة على ذلك مشروع مدينة الملك فهد الطبية، التي تم إشراك القطاع الخاص في تطوير بعض خدماتها التخصصية، وكذلك مشروع المراكز الصحية الافتراضية التي تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والاستشارات عن بعد بالشراكة مع شركات وطنية. هذه المبادرات لم تسهم فقط في تقليص قوائم الانتظار، بل أدت إلى رفع كفاءة الإنفاق الصحي وتحسين تجربة المريض.
ثانياً: مساهمة القطاع غير الربحي في سد الفجوات الصحية: أما القطاع غير الربحي، فيمثل البعد الإنساني والمجتمعي في منظومة الصحة، إذ يركز على الفئات الأقل حظًا ويعزز مفهوم المسؤولية الاجتماعية. الجمعيات الصحية الخيرية والمبادرات التطوعية تمارس دورًا محوريًا في إيصال الخدمات إلى المناطق النائية، وتقديم الدعم العلاجي لغير القادرين، إضافة إلى نشر الوعي الصحي والوقاية من الأمراض.
في السعودية، لعبت مؤسسات مثل مؤسسة الملك سلمان للأعمال الخيرية والإنسانية وجمعية زمزم للخدمات الصحية التطوعية وجمعية عناية أدوارًا رائدة في دعم الفئات المحتاجة من خلال حملات طبية متنقلة، وبرامج علاج مجاني، ومشاريع لتأهيل المرضى والمسنين. وقد أسهمت هذه الجهات في توسيع نطاق الوصول إلى الخدمات الصحية بنسبة ملحوظة في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى.
وعلى الصعيد العالمي، نجد نماذج ناجحة مثل مؤسسة "أطباء بلا حدود" التي تقدم الرعاية الطبية في مناطق الكوارث والحروب. هذه الأمثلة تؤكد أن القطاع غير الربحي يمكن أن يكون عنصرًا حاسمًا في تحقيق العدالة الصحية ومساندة الأنظمة الحكومية.
ثالثاً: التكامل بين القطاعات لتحقيق الكفاءة والاستدامة: إن التكامل بين القطاعات الثلاثة — العام، والخاص، وغير الربحي — هو حجر الأساس لبناء نظام صحي مرن ومستدام. فكل قطاع يمتلك نقاط قوة مختلفة يمكن أن تُسهم في دعم الآخر، فالحكومة تضع الإطار التشريعي والتنظيمي وتضمن العدالة في توزيع الخدمات. والقطاع الخاص يقدم الخبرة الإدارية والتمويل والتقنيات الحديثة، والقطاع غير الربحي يضيف البعد الإنساني والتطوعي ويصل إلى شرائح المجتمع التي قد تغيب عن الاهتمام التجاري.
في هذا السياق، تعمل السعودية حاليًا على إطلاق مبادرة برنامج التحول الوطني الصحي، الذي يسعى إلى تحويل وزارة الصحة من مقدم مباشر للخدمة إلى جهة تنظيمية وإشرافية، وفتح الباب أمام الاستثمار الخاص وغير الربحي لتقديم الخدمات ضمن نظام تأميني متكامل. ومن المتوقع أن تؤدي هذه الخطوة إلى تحسين جودة الخدمة وتقليل أوقات الانتظار وتوسيع التغطية الصحية.
رابعاً: التحديات وآفاق المستقبل: رغم النجاحات، ما زالت هناك تحديات تتطلب المعالجة، منها ضرورة توحيد معايير الجودة والاعتماد الصحي بين جميع القطاعات، وتعزيز الشفافية والحوكمة في عقود الشراكة، إضافة إلى تطوير آليات تمويل مستدامة للقطاع غير الربحي تضمن استمرارية برامجه. كما أن تدريب الكوادر الوطنية وتأهيلها لإدارة المشاريع المشتركة يمثل عاملاً حاسمًا في ضمان النجاح.
ومع استمرار الإصلاحات في القطاع الصحي السعودي، يتوقع أن تصبح الشراكات بين القطاعين الخاص وغير الربحي ركيزة أساسية في تحقيق مستهدفات برنامج جودة الحياة ورؤية 2030، لتتحول الرعاية الصحية من عبء مالي على الدولة إلى منظومة إنتاجية متكاملة تُدار بكفاءة وتخدم المواطن والمقيم بجودة عالية.
كاتب اقتصادي
