ربما يكون الذكاء الاصطناعي أكثر تكنولوجيا تعد بتحويل العالم عبر الأجيال، لكنه أيضا أقل من أضفى بهجة لقلوب الناس. ففي حين تستقبله "وول ستريت" بحفاوة، يقابله الأمريكيون العاديون بتردد وقلق، بل حتى خوف.
هذا ليس مثل عصر الدوت كوم. فبحسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، أظهر استطلاع للرأي أجري عام 1995 أن 72% من المشاركين مطمئنون للتكنولوجيا الجديدة آنذاك مثل الحواسيب والإنترنت. اليوم، تظهر بيانات حديثة لصالح شبكة "سي إن بي سي" أن الأمور انقلبت مع الذكاء الاصطناعي؛ فقط 31% مطمئنين له، و 68% غير مرتاحين له.
ما سبب هذا الاختلاف؟
فقاعة الدوت كوم، مثل طفرة الذكاء الاصطناعي، حملت مبالغاتها وعبثياتها، والتفاؤل وروح المغامرة. فمن مديري شركات فورتشن 500 إلى الطلاب المنسحبين من مقاعد الجامعة، كان لديهم جميعا فكرة لمشروع على الإنترنت، والطلب على المهارات الرقمية ارتفع.
أما اليوم، فيتركز التفاؤل تجاه الذكاء الاصطناعي بين المهندسين والمديرين التنفيذيين الذين يقلبون مقدار تقليص العمالة الممكن، فيما يتساءل الموظفون بقلق عما إن كان الذكاء الاصطناعي، أو موظف متمرس في استخدامه، سيحل محلهم. وقد أعلنت شركات كبرى مثل "ميتا" و "مايكروسوفت" و "أمازون" عن تسريحات هذا العام.
منذ إطلاق "تشات جي بي تي" في نوفمبر 2022، ارتفعت القيمة السوقية لشركات التكنولوجيا الكبرى المرتبطة بالذكاء الاصطناعي 169%. وأسهم الإنفاق الناتج عن هذه الثروات، والاستثمارات الضخمة في مراكز البيانات، في جعل المؤشرات الاقتصادية تبدو قوية. ومع ذلك، يشير استطلاع جامعة ميشيغان إلى أن ثقة المستهلكين قريبة من أدنى مستوياتها تاريخيًا.
أسباب هذا التناقض
هناك أسباب كثيرة لهذا التناقض، أبرزها تكلفة المعيشة. لطالما كانت لدى الأمريكيين مشاعر متضاربة تجاه التكنولوجيا. فهم يقدرون الراحة والميزات، بينما يقلقون من تكلفتها: على الخصوصية، والصحة النفسية، والتماسك الاجتماعي. ومن هذه الناحية، لا يختلف الذكاء الاصطناعي عن أجهزة الكمبيوتر الشخصية، أو الإنترنت، أو وسائل التواصل الاجتماعي.
كما يدرك معظم الناس أن التكنولوجيا قد تجعل بعض الوظائف غير مطلوبة، لكن ماذا عن تكنولوجيا قد تجعل البشر أنفسهم غير ضروريين؟
في تقرير حديث، قال اقتصاديون في "جولدمان ساكس" إن السيناريو المتفائل للذكاء الاصطناعي هو تسارع الإنتاجية إلى درجة تجعل "المساهمة البشرية في الأعمال المعرفية غير ضرورية".
ويتخيل باسكوال ريستريبو، الاقتصادي في جامعة ييل، عواقب "الذكاء العام الاصطناعي"، حيث تستطيع الآلات التفكير والاستدلال مثل البشر. فمع قدرة حوسبة كافية، قد تصبح حتى الوظائف "الإنسانية" بطبيعتها، مثل العلاج النفسي، أفضل عندما تتكفل بها آلات. إذا وصلنا تلك المرحلة، فإن حصة العمال من الناتج المحلي الإجمالي، البالغة حاليًا 52%، "ستنتهي إلى الصفر، ويؤول معظم الدخل في النهاية إلى القدرة الحاسوبية."
وهذه، للتذكير، هي السيناريوهات المتفائلة.
يقول بيتر أتواتر، الاقتصادي والمحاضر في كلية ويليام وماري، إن طلابه كلما عرفوا أكثر عن الذكاء الاصطناعي، أصبحوا أقل ارتياحا له:
"لقد تحول الذكاء الاصطناعي من أداة مفيدة لتوفير الوقت في البحث والكتابة إلى تهديد للوظائف المبتدئة، وارتفاع فواتير الكهرباء، ومخاوف بيئية".
لكن مجرد قدرة الذكاء الاصطناعي على استبدال البشر لا يعني بالضرورة أنه سيحل محلهم. قلة من الشركات التي تعلن عن استغنائها عن موظفين تذكر الذكاء الاصطناعي كسبب فعلي. وتبني الشركات للذكاء الاصطناعي ما يزال محدودًا مقارنة بحجم الاستثمار فيه، ما يغذي فرضية وجود فقاعة.
لكن هل ارتياب الناس تجاه للذكاء الاصطناعي يهم؟ ربما. قدمت الطاقة النووية يوما ما الوعود التي يعد بها الذكاء الاصطناعي اليوم. لكن الجمهور لم يطمئن لحظة لتكنولوجيا بيدها إبادة البشرية، وتوقفت لعقود بسبب تلك المخاوف. بين عامي 1978 1990، أظهرت استطلاعات الرأي معارضة ساحقة للمفاعلات النووية الجديدة. والآن، بدأ هذا المجال يستعيد نشاطه، ساخرا، ليدعم الذكاء الاصطناعي.
اليوم، تهب الرياح السياسية لصالح الذكاء الاصطناعي. فكانت أولى قرارات الرئيس ترمب إلغاء الإرشادات التي وضعها الرئيس السابق جو بايدن بشأن الذكاء الاصطناعي، كما يولي الأولوية لإزالة الحواجز التنظيمية أمامه للتنافس مع الصين.
لكن اتجاه الرياح قد يتغير. فقد أظهر استطلاع رأي أجرته شركة "ناراتيف ستراتيجيز"، وهي شركة اتصالات وعلاقات عامة، وشمل نحو ألفي شخص، أن 40٪ فقط قالوا إنه يمكن الوثوق بتسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي "لفعل الصواب"، وهو أقل بكثير من الثقة بصناعات مثل التمويل أو الطاقة أو الرعاية الصحية (62%–63%).وعند سؤالهم عن اللوائح التنظيمية، قال 57٪ إن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي بحاجة إلى مزيد من اللوائح والقيود، وهي نسبة أعلى من أي صناعة أخرى.

