سورية إلى أين؟ من تبدل الموقف الروسي والمتغير التركي إلى وحدة المعارضة

دخلت الأزمة السورية طورا جديدا وذلك بعد الفيتو المزدوج، الروسي والصيني، ضد مشروع القرار الأوروبي في مجلس الأمن الدولي، والإعلان عن تأسيس "المجلس الوطني السوري" في إسطنبول في الثاني من الشهر الجاري، بوصفه "العنوان الرئيس للثورة السورية في الداخل والخارج"، والذي لاقى تأييدا قويا من طرف جموع المحتجين والمتظاهرين السوريين. إضافة إلى إعلان رئيس الوزراء التركي عن أن فشل مشروع القرار الأوروبي لن يثني تركيا من اتخاذ سلسلة عقوبات ضد النظام السوري، والتي سيفصح عنها في زيارة مرتقبة له لمخيمات اللاجئين السوريين في إقليم إسكندرون على الحدود التركية السورية.

تبدل الموقف الروسي
غير أن اللافت هو ما اعتبره بعض المتابعين للشأن السوري تبدلا في الموقف الروسي حيال الأزمة السورية، من خلال مطالبة الرئيس الروسي، ديمتري ميدفيديف، القيادة السورية بإجراء الإصلاحات أو "التغييرات المطلوبة أو الرحيل"، وذلك بعد أيام قليلة على الفيتو المزدوج في مجلس الأمن، مع أن ميدفيديف استدرك مطالبته بالقول: إن قرار الرحيل "يجب أن يتخذه شعب سورية وقيادتها، وليس الناتو وبعض الدول الأوروبية"، ولم ينسَ تأكيد معارضة روسيا "تشريع عقوبات أحادية الجانب لإسقاط الأنظمة" في مجلس الأمن الدولي، وذلك في معرض تبريره الفيتو الروسي ضد مشروع القرار الأوروبي، الذي "كان يمكن أن يسمح بتكرار سيناريو ليبيا في سورية"، حسب قوله.
ويبدو أن متغيرات الوضع السوري الداخلي، في ظل استمرار الحراك الاحتجاجي وتنامي زخم الانتفاضة بعد اغتيال القيادي الكردي البارز، مشعل التمو، واستمرار النظام وإمعانه في المضي في الحل الأمني والقمعي ونشر الوحدات العسكرية في مناطق الاحتجاجات، وتباين المواقف الدولية ما بين مواقف الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية وبين مواقف روسيا والصين ومن يتخذ من دول العالم الأخرى مواقف تشابه وتساند مواقفهما. كل ذلك يدفع إلى التساؤل عن المآل الذي ستتخذه الأزمة السورية، وطرح السؤال الصعب: إلى أين تتجه سورية؟

دلالات تبدل الموقف
قد لا تعني مطالبة الرئيس ديمتري مدفيديف نظيره السوري بإجراء الإصلاحات أو التنحي، بالضرورة، تغيرا في الموقف الروسي حيال الوضع في سورية؛ لأن من السابق لأوانه حدوث تبدل كبير فيه، خاصة وأن روسيا تقف بقوة ضد أي مسعى أطلسي وأوروبي في مجلس الأمن الدولي، يدين النظام السوري ويهدد بعقوبات دولية، لكن في نفس الوقت تسعى روسيا إلى حثّ النظام السوري على القيام بإصلاحات وتنفيذها على الأرض. وفي هذا السياق يمكن فهم التحذير السابق الذي أطلقه ميدفيدف للرئيس السوري من "المصير الحزين" الذي ينتظره، إذا لم يستمع إلى مطالب المتظاهرين السلميين، وينفذ وعوده الإصلاحية.
غير أن كلام الرئيس الروسي يحمل دلالات عديدة؛ كونه يضع القيادة السورية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما إجراء الإصلاحات المطلوبة أو الرحيل عن السلطة. وهو يأتي على لسان رئيس دولة يقف إلى جانب القيادة السياسية السورية، ويدافع عنها في المحافل الدولية. لكنه، يعكس - في نفس الوقت - تململ القيادة الروسية من تأخر النظام السوري من تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها، وأصدر بشأنها العديد من المراسيم والقوانين، وبما يشي باتباع أساليب مماطلة ومراوغة من طرف النظام؛ لتفادي تنفيذ تغييرات حقيقية، تلبي تطلعات ومطالب أغلبية السوريين، وتجنب البلد من الدخول في مآلات وسيناريوهات دموية وكارثية، وذلك على الرغم من بطلان الاعتقاد بأن الحلول الأمنية والقمعية يمكنها إخماد الانتفاضة، التي تشارف على دخول شهرها السابع، وبزخم لا يشير إلى احتمال أو اقتراب توقفها في المدى المنظور.
ولا يعبّر كلام الرئيس الروسي عن موقفه الشخصي، أو موقف الرئاسة الروسية القابعة في الكرملين فقط، بل يعبر عن موقف مختلف مواقع مراكز القرار في روسيا، حيث جاءت تصريحات ميخائيل بوجدانوف، نائب وزير الخارجية الروسية، لتصب في ذات المنحى الذي ذهب إليه الرئيس الروسي بشأن سورية، وأكد بدوره أن "الإصلاحات ونتائجها وحدها من شأنها أن تؤكد أن القيادة السورية كفؤة حقا، وتأخذ على عاتقها المسؤولية الكاملة عن أقوالها أمام شعبها".
ومع أن القيادة السورية اعتبرت الفيتو الروسي والصيني "موقفا تاريخيا"، إلا أنه في حقيقة الأمر منحها فرصة لاختبار صدق نواياها في تنفيذ خطوات الإصلاح، التي تتحدث عنها، ولن تنتظر الدول الغربية كثيرا، كي تقنع روسيا النظام للقيام بالتغييرات المطلوبة؛ لأنها مصرة على فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية على النظام السوري، بغية إجباره على حل الأزمة، ووقف العنف ضد المتظاهرين.
ويكتسي الموقف من الأزمة السورية أهمية خاصة بالنسبة إلى روسيا، حيث تمانع القيادة الروسية صدور أي قرار يدين النظام أو يفرض عقوبات دولية عليه؛ لأنها تولي أهمية خاصة لعلاقاتها مع النظام السوري، وتتحدث عن عدم سماحها لتكرار النموذج الليبي، مع أن روسيا تعي تماما أن سورية ليست ليبيا، وأن المعارضة السورية - في معظمها - ترفض أي تدخل عسكري أجنبي في الأزمة السورية.
ولا شك في أن المصالح الروسية في سورية كبيرة ومهمة بالنسبة إلى روسيا، حيث تقدر مبيعات الأسلحة إلى سورية بعدة مليارات من الدولارات. يضاف إلى ذلك عشرات المشاريع المشتركة التي تم الاتفاق والتعاقد بشأنها، وتقدّر قيمة عقودها بمليارات الدولارات، وتختص بالتعاون في مجالي النفط والغاز وتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية والعلمية؛ لذلك تبذل القيادة الروسية مساعي لعقد حوار بين السلطة السورية والمعارضة، في الداخل والخارج، وذلك في إطار ما تسميه "مصلحة" لها في وقف إراقة الدماء في سورية، واستقبلت في هذا الأسبوع وفودا من المعارضة، التي تصفها بالمعدلة، أو بالأحرى المعارضة قريبة من النظام، وأرادت من خلاله توجيه رسائل إلى القيادة السورية، وذلك بإعلان ميخائيل مارجيلوف، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي، بعد استقباله الوفد بأن استخدام موسكو لحق النقض ضد قرار مجلس الأمن حول سورية، ليس "ضوءا أخضر"، بل إنه "إنذار أخير" للنظام السوري، تكون روسيا بعده استنفدت كل الأدوات التي يمنحها لها القانون الدولي. ثم أكد على أن الفيتو "ليس تبرئة" للنظام السوري، وأنه "في حال لم يفهم النظام السوري هذه الإشارة، فعليه أن يحاول فهمها في أقرب وقت ممكن".

الموقف التركي
من جهتها، تراقب تركيا عن كثب تطورات الوضع في سورية، وحاولت منذ البداية البحث عن حلول من خلال الحوار مع القيادة السورية، وسعت الحكومة التركية منذ بداية الأحداث في سورية إلى اقتراح معادلة، تقول بإنجاز الإصلاح مع المحافظة على الاستقرار، وأن يقود الرئيس السوري بشار الأسد شخصيا الإصلاح في بلاده، وأوفدت رئيس استخباراتها ووزير خارجيتها إلى دمشق، إلى جانب الاتصالات العديدة التي أجرها أردوغان من الرئيس الأسد، من دون أن تثمر شيئا لدى القيادة السورية. ومع تطور الأزمة السورية، واتساع نطاق الانتفاضة طرأت متغيرات عديدة طاولت الموقف التركي، الذي شهد تصاعدا ملحوظا، وصل إلى درجة التهديد بفرض عقوبات على سورية، حيث من المتوقع أن يعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان - خلال زيارته المرتقبة لمخيمات اللاجئين السورين في إقليم إسكندرون - عن تغير نوعي في الموقف التركي، وعن بدء مرحلة جديدة من العلاقات مع سورية، تتحول فيها من التفاهم والتعاون إلى العقوبات والقطيعة مع النظام السوري، وتترجم في جملة من العقوبات الاقتصادية والسياسية، تطاول - حسب الصحافة التركية - العديد من قيادات وأركان النظام، وتتجسد في حجز الأرصدة لبعض الشخصيات والمؤسسات والشركات السورية، ووقف التعامل مع المصارف السورية، وبما تطاول وقف التعاون الكهربائي مع سورية وسوى ذلك.
وتدخل الإجراءات التركية ضمن ما جرى الاتفاق عليه، خلال اللقاء الذي جمع أخيرا في نيويورك الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. وعلى الأرجح أن المناورات العسكرية التركية، التي بدأت في بداية الشهر الجاري في إسكندرون، تدخل في سلسلة المتغيرات في الموقف التركي من الأزمة السورية وتدخل في نطاق خطة تركية، يبررها الجانب التركي تحت مسمى "التدخل العسكري لغايات إنسانية".
غير أن العقوبات الاقتصادية التركية ضد سورية، سوف تحمل خسائر لتركيا على المدى القصير، وتتأذى مصالحها، بالنظر إلى أن جميع العلاقات مع سورية، في قطاعات التجارة والسياحة والطاقة والمواصلات هي شبه معطلة في أيامنا هذه، لكن الحكومة التركية تعتقد أن مصالحها على المدى الطويل ستكون مضمونة. ومن جانبها اتخذت الحكومة السورية قرارا، يقضي بوقف استيراد البضائع والسلع التي تتجاوز نسبة الضرائب عليها 5 في المائة، لكنها تراجعت عنه بفعل تأثر التجار السوريين، وخاصة في حلب، إلى جانب تهديد تركيا باتخاذ إجراءات مضادة، تؤثر على الاقتصاد السوري. وفي جميع الأحوال، ستتأثر قطاعات اقتصادية عديدة في البلدين الجارين نتيجة العقوبات والإجراءات الاقتصادية، وتمس على وجه الخصوص الفعاليات والقطاعات الاقتصادية في المحافظات التركية والسورية الحدودية، والتي انتعشت كثيرا في السنوات الأخيرة. لكن الآثار السلبية ستكون أكبر على الاقتصاد السوري.
وتجد المتغيرات في الموقف التركي حيال الوضع في سورية متحققها في التصريحات التي أطلقها أخيرا وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو، وصلت إلى حد "التهديد المبطن"، حسب المحللين الأتراك، وردّ فيها على الانتقادات الواسعة، التي وجهت أخيرا إلى سياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، واتهم فيها القيادة السورية بشن دعاية سوداء ضد تركيا، لكي تضع أنقرة في موقف حرج وصعب، واعتبر أن العقوبة الأكبر التي تلقتها هي خسارة صداقة تركيا لها.
والواقع هو أن الساسة الأتراك يعتبرون أن اهتمام تركيا بما يجري في سورية يختلف عن اهتمامها بما جرى في مصر أو تونس؛ لأن الوضع بالنسبة لسورية مختلف تماما"، حيث تعتبر تركيا أن ما يجري في سورية مسألة تمسها تماما؛ لأن "سورية دولة مجاورة، وهناك حدود تمتد على مسافة 850 كليومترا"، وبالتالي فإن ما يجري في سورية يرقى إلى مصاف مسألة تركية داخلية، تتطلب تعاملا مختلفا، حسب رأيهم.
وحدة المعارضة
مع استمرار الحراك الاحتجاجي في سورية، حاولت قوى المعارضة السورية توحيد صفوفها، وعقدت في هذا السياق مؤتمرات عديدة، وتمخضت مساعيها العديدة عن تأسيس "المجلس الوطني السوري" في إسطنبول في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، الذي دعا في بيانه التأسيسي إلى "إسقاط النّظام بكافّة أركانه ورموزه". وشكّل هذا المجلس قيادة سياسية وأمانة عامّة، واعتبر نفسه "العنوان الرئيس للثورة السورية في الداخل والخارج".
وشكّل هذا الإعلان تجسيدا لمسعى رأب الصّدع بين القوى والأحزاب والتجمّعات المعارضة داخل سورية وخارجها، والعمل على توحيدها، لكن التحدّي الأكبر الذي يواجه المجلس هو أن يقدم رؤية واضحة لمستقبل سورية، وكيفية دعم الانتفاضة، والتحدث بلغة جامعة لمخاطبة جميع السوريين، وأن يشكّل البديل الديمقراطي المدني والتعددي، وبقدم ضمانة لمختلف الفئات الاجتماعيّة. وعليه، فإن حجم المتغيرات، الداخلية والخارجية، ستؤثر كثيرا في مجرى الأحداث في سورية، ولعل العامل الأهم هو حراك الداخل السوري وقواه الفاعلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي