الطفرة الأولى لم تستثمر لضمان مواصلة النمو بالوتيرة نفسها و"الثانية" تملي استحقاقاتها
قال الدكتور إبراهيم العواجي إن المملكة قد تكون لديها فرصة ثانية وأخيرة لجني ثمار طفرة اقتصادية مقبلة من خلال تحويلها إلى تنمية مستدامة هدفها ووسيلتها معاً هو الإنسان السعودي، مشيراً إلى أن الطفرة الأولى مضت دون أن يحقق المجتمع السعودي الهدف المطلوب أو ما كان ممكناً تحقيقه منها بالدرجة الكافية.
وحذر في حوار مفتوح ضم نخبة من الاقتصاديين من أن سيناريو الطفرة الأولى قد يتكرر في غياب الرؤية والاستراتيجية الواضحة للتعامل مع المستجدات الآنية، على الرغم من توافر البنية التحتية المعقولة والمناخ المواتي والتجربة التاريخية التي يمكن استلهام العبر والدروس المفيدة منها.
وقال العواجي: الطفرة الأولى انتهت دون تحقيق النجاح المطلوب في تنوع الدخل حيث ظل النفط المصدر الأول إن لم يكن الوحيد للإيرادات الحكومية!!.. لقد اعتمدنا على الخام الناضب ولم ننجح في خلق البدائل حيث كان اقتصادنا رهنا لبورصة أسعار النفط. وأضاف: "لقد حان الوقت لكي ندرك أن النفط مهما كانت احتياطياتنا منه ضخمة ناضب وغير دائم، محذراً من أن السيناريو الكابوس للدول المنتجة والمصدرة للنفط جميعها وهو اكتشاف بديل تقني للخام ودخوله السوق احتمال ليس ببعيد".
وشدد معاليه على أنه ما لم تعد الدولة ترتيب أولوياتها وتضع تطوير الإنسان باعتبارة والقيادة المحرك لكل نشاط اقتصادي قبل النفط وقبل البناء وقبل أي شيء فإن المجتمع لن يتقدم خطوة. وأكد أهمية الاهتمام بالشباب حتى لا يكونون نهباً للفراغ والمؤثرات الخارجية، مشيراً إلى أن المجتمع في طفرته الأولى انتهى بحالة من الركض المستمر خلف المصالح المادية بحدود دون الالتفات لوضع برامج تستوعب طموحات وتطلعات الشباب مما أدى إلى انخراط بعضهم في عمليات قتل وإرهاب وانحراف فكري.
وقد شارك في إدارة النقاش الدكتور صالح الشنيفي أستاذ المحاسبة في جامعة الملك سعود والدكتور عبيد المطيري أستاذ المحاسبة في جامعة القصيم والأستاذ طلعت حافظ المصرفي والمحلل المالي، والأستاذ نبيل المبارك المحلل المالي، وكان هذا الحوار:
القيم والتنمية
كيف تتوافق فكرة تخصيص التنمية والمحافظة على منظومة القيم؟
العواجي: هذه من الأسئلة القديمة التي واجهت المجتمع السعودي قبل الطفرة, حيث كانت تعد من الأسئلة الصعبة، ولكن بعد أن عاش الطفرة وعايش تحولاتها الاقتصادية, وما أفرزته هذه التحولات في سلوكيات المجتمع, فقد ظهرت الآن اتجاهات تصادمية للتعامل مع هذه الإشكالية خاصة وهي تستعد لدخول طفرة جديدة وما لم يتحقق اتفاق بين مكونات المجتمع المؤثر بقراراته التحولية على موقف من قضية التغيير المطلوب بما يحافظ على التوازن بين منظومة قيمه وتطلعاته في التطور والتحديث، فربما يظل أقل قدرة على تجاوز الموقف والاتفاق على الإجابة الأصح للسؤال.
ويمضي معاليه قائلاً: أولا الطفرة الأولى جاءت في ظروف كان المجتمع فيه تقليدياً اجتماعياً واقتصادياً وأكثر تماسكاً، والمؤثرات الخارجية كانت ضعيفة، وكانت درجة التعليم أقل. ففي تلك الحالة الساكنة تجلى نمط جديد من الحركة, المتمثلة في الحراك الاقتصادي, وعنوانه المشاريع الضخمة, وقدوم ملايين الوافدين الذين أصبحوا جزءاً من هذا المجتمع المحافظ وأثروا وتأثروا بسلوكياته. متغيرات كثيرة حملتها رياح التغيير الاقتصادي في ذلك الوقت, ومع ذلك ظلت الدولة قادرة على السيطرة على أدواتها وقادرة على التعامل مع تلك المؤثرات جميعها. هذه كلها عوامل لا بد أن نأخذها في الاعتبار حتى نعرف الفرق بين طفرة نتحدث عنها الآن وطفرة سابقة.
في تصوري كانت الصدمة الاجتماعية في الطفرة الأولى أقوى على الأقل نظرياً لأن هذه الطفرة جاءت والمجتمع في وضع السكون على عكس الحراك الاجتماعي الذي نلحظه الآن حتى لو كان في الاتجاه غير الصحيح، علما أن هذا الحراك ليس بالضرورة نحو الأفضل.
الطفرة السابقة نتجت عنها أشياء كثيرة جدا ـ إذا جاز الحديث عنها ـ فقد حققت إنجازات كبيرة خاصة في البنية الأساسية, وفي الصناعة على سبيل المثال حيث برزت "سابك" كشركة عالمية عملاقة وخطت المملكة خطوات جيدة في صناعة وإنتاج المشتقات النفطية وغيرها.
يمكننا القول إن تأثير الطفرة الأولى كان اقتصاديا (أكثر منه اجتماعياً) وعلى سبيل المثال فقد تراجع التعليم كيفاً رغم أهميته لمستقبل الاقتصاد والبلاد كما ظهرت آنذاك إفرازات سلبية فى المجتمع, وكثير من السلوكيات التي لم نكن نعرفها. وبحكم عملي في وزارة الداخلية فقد عايشت بعض سلوكيات المجتمع اليومية سواء في المجال الاقتصادي التعاملي أو في الحياة العامة، وتلك الإفرازات على قلتها "نسبياً" في ذلك الوقت أصابتني بحالة من القلق ولسان حالي يقول: هل نحن في مجتمع غير تكافلي؟ وأخذني الأمر عدة سنوات لأدرك بأننا في وزارة الداخلية فقط نتلقى الإفرازات السلبية في المجتمع, بدءاً بالجرائم أو بقضايا التحايل وانتهاءً بالقضايا الاقتصادية. لكنني أدركت لاحقاً أن الحالات التي نراها من زاوية واحدة يجب ألا ترسم صورة المجتمع الذي يواجه ضغوطاً من عدة اتجاهات.
عندما أتحدث عن تلك الإفرازات السالبة وقت الطفرة الأولى ربما نقول إن "الإدارة" كانت معذورة، لأنها كانت بسيطة جدا وتقليدية. إدارة محدودة القدرات عليها تنظيم شؤون مجتمع تقليدي ومحافظ لا يحب التغيير بل يكرهه ويقاومه. وهنا لا بد لنا من وقفة أمام "مقاومة التغيير" التي يعتبرها علماء الاجتماع عاملاً إنسانيا ليس من سمة مجتمعنا فقط وإنما في كل المجتمعات, وإن اختلفت درجاته ومع ذلك فمجتمعنا السعودي أكثر مقاومة من تلك المجتمعات التي لديها ثقافة الإنتاج وثقافة العمل, فمثلاً الوظيفة تعني عندنا المصالح والتشبث بالمركز. فمقاومة التغيير لها أسباب نفسية وشخصية حتى فيما يتعلق بقضايا التطور والتغيير العامين.
ولأن الإدارة لم تكن تملك أدوات التعامل والآلية التي تمكنها من تطوير جهاز الدولة للتعامل مع ذلك الخوف من التغيير وتهيئ المناخ للتكيف مع المتطلبات الجديدة فقد كانت الإدارة الاقتصادية هي التي أدارت نفسها وتعاملت مع الأنظمة التي كانت متواضعة بدورها, وكانت وما زالت إحدى نقاط الضعف التي نعاني من بعضها حتى الآن !! فما زلنا نعاني من علاقتنا بالأنظمة التي ظللنا نقدسها ونحد من محاولة إعادة صياغتها وتعديلها ونصر على أن هذا "نظام", علماً بأن النظام نصوص كتبها مجموعة من المختصين وصدر فيها مرسوم ملكي, يعني اجتهادا في وقت ما, بواسطة ناس مجتهدين مُدركين, قادرين, وواعين, ومع ذلك فالظروف غدا وبعد غد تختلف والأنظمة تتطلب تعديلات. وللأسف كانت أنظمتنا لا تملك المرونة ولا آلية تعديلها وهذه حقيقة ما زلنا نعيش فصولها.
لا رؤى واضحة
وفي مداخلة من الزميل عبد الله الشماسي طرح سؤالا قال فيه: هل تعتقدون أننا الآن وبعد مرور نحو 30 سنة على الطفرة الأولى نملك رؤى ناضجة لإدارة "طفرتنا الثانية"؟
العواجي: بكل أسف لا أعتقد أن لدينا رؤية واضحة حتى الآن وإن كانت لدينا التجارب التي يمكن أن نبني عليها. وبما أنني لست يائساً تماما فإنني أدعو إلى استنباط ما يناسب ظروف المرحلة من خبراتنا السابقة.
ويردف قائلاً: لأن الالتزام بالخطط لم يكن جيداً، إذ إن العلاقة بين الخطة والميزانية باعتبارها الأداة الأهم في تنفيذها لم تكن عملية، لأن الذي يملك القرار في اعتماد المشاريع هي وزارة المالية أو موظفوها، والذين ينفذون هم موظفو القطاع الحكومي, يعني التخطيط يضع تصورات يأخذها من القطاعات, وفقاً لما تريده هذه القطاعات, وماذا يجب أن يكون, ليترجموا كل ذلك على شكل خطة لخمس سنوات. لكن حقيقة لا توجد علاقة حقيقية مباشرة بين ما تحتويه الخطة وما يجري تنفيذه على أرض الواقع من خلال آلية الدولة في تنفيذ تلك السياسات والبرامج كالميزانية وغيرها هي الآلية الفعلية وكلها تسير في اتجاه لوحدها, وصدقوني إن حدث أي توافق فهو بالصدفة, وفي بعض الحالات تتضاعف المخرجات عما تتضمنه الخطة أو العكس.
أما الملاحظة الثانية فيضيف العواجي أننا نجد في قطاعات مثل التعليم, أنها حققت قفزات كمية كبيرة مقارنة بالخطة, فهي لا تتقيد بالخطة, ورغم أن الخطة دائماً تتضمن في مقدمتها سياسات وأهداف الدولة في تنمية الإنسان, لكن الواقع أنها تنفيذيا تتحول إلى ديباجة جميلة!!
مداخلة من الأستاذ طلعت حافظ، حيث قال: هناك مَن يعتقد أننا لم نحسن إدارة الطفرة الأولى, بمعنى أنه عندما انتهت الطفرة الأولى وهبطت أسعار النفط كما هو معروف في عامي 97 و98 إلى أقل من عشرة دولارات, تأثرت المملكة تأثرا كبيرا وخاصة على صعيد مشاريع البنية التحتية.. ما تعليق معاليك؟
العواجي: هذا سؤال جيد, لكن مما سبق من حديث وهو يدور في الاتجاه ذاته، يتضح أننا نتحرك برزم مختلفة على الصعيد القطاعي, وليس هناك أي تناغم في الحركة بين القطاعات وهذه حقيقة, لأننا لا نزال نعمل بعقلية عشر سنوات أو 20 سنة مضت وخاصة فيما يتعلق بالجانب التنظيمي.
وعودة لسؤالك, الحقيقة أن الطفرة الأولى انتهت دون أن نحقق النجاح المطلوب في تنوع الدخل حيث ظل النفط المصدر الأول إن لم يكن الوحيد للإيرادات الحكومية!!.. لقد اعتمدنا على النفط الخام فيما الإنسان ظل دوره ضعيفا، وهنا درس "طفروي إن جاز التعبير"، مطلوب منا تعلمه وهو أهمية تعزيز العنصر الأهم والثابت (وهو الإنسان) من جهة، والحد من المتغير (وهو النفط) لتحقيق التنمية من ناحية أخرى. ذلك أن التاريخ يعلمنا أن أي تغيير إيجابي في المجتمعات يعود إلى الإنسان.
إذن ما لم يكن هناك توجه واضح تتبناه الدولة سواء من خلال المجلس الاقتصادي الأعلى أو غيره يتتعلق بالالتزام باستراتيجية تنموية صارمة لا تعرف الانحراف أو التجاوز إيجابا أو سلباً، استراتيجية تترجم في شكل خطط وفق جداول زمنية محددة، ما لم يحدث ذلك فسنظل بعيدين عن تحقيق أي طفرة حقيقية أو تنمية مستدامة وسيظل اقتصادنا الوطني رهيناً بتطورات لا نملك السيطرة عليها في الأسواق الخارجية. على سبيل المثال عندما نصل إلى حصة بحدود 30 ـ 40 في المائة للنفط في دخل الدولة عندها فقط يمكننا القول أن اقتصادنا بدأ يأخذ جدياً منحى التطور. وعلينا أن ندرك أن اقتصادنا لا يتطور كمياً عن طريق زيادة عدد المنشآت والمصانع فقط, بل عندما تحقق هذه المنشآت والمصانع زيادة منتظمة وفعلية في إنتاجها, سواء كان ذلك الإنتاج سلعياً أو خدميا.
ما لم يحصل هذا, فسوف نظل نعيش طفرة وهمية قد تمتد 10 - 15 أو 20 سنة ثم تتبخر!! لقد حان الوقت لكي ندرك أن النفط مهما كانت احتياطياتنا منه ضخمة ناضب وغير دائم.
ولذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار في خططنا هذه الحقيقة، لأن لا أحد يستطيع التكهن بما قد يحدث لهذا الخام من تطورات خلال العشر أو الـ 50 سنة المقبلة.
المتغير الثاني في النفط أنه ليس له ثبات في السعر, بمعنى أن حدوث أي هبوط في سعره المقدر في موازناتنا وخططنا يعني انهيار كل أحلامنا أو إلغاء كل أو جزء من خططنا وأهدافنا!!.
وهناك متغير ثالث وخطير, يتعدى النفط وسعره إلى احتمال التوصل لتقنيات بديلة عن النفط وهذا هو السيناريو الكابوس للدول المنتجة والمصدرة للنفط جميعها.. وهو احتمال ليس ببعيد في ظل بلوغ سعر النفط لمستويات قياسية.
كل تلك السيناريوهات تحتم علينا أن يكون لنا هدف استراتيجي مدعوم بخطط ومراجع واضحة قادرة على التعامل مع كافة التوقعات بل وأسوئها.. ولذلك فإن علينا واجب وضع خططنا على قاعدة وبنية اقتصادية صلبة ومدروسة وواضحة المعالم والتوجهات. يعني حتى لو أصبح عندنا أجمل عمائر وأكبر مصانع وأجمل طرق وكلنا جامعيون في البلد, ما لم نكن في لحظتها نعرف كيفية المحافظة على مستوانا الاقتصادي, ومستوى معيشتنا, سيعني ذلك أن كل تلك الإنجازات هي مجرد فقاعة لا تستطيع حتى أن تبقي على نفسها, وهذه نقطة مهمة جدا.
ولذلك في مرحلة الطفرة الأولى تطورنا نعم ولكن توقفنا تقريبا أو شبه توقفنا عن الحركة في منتصف الطريق، لأننا وضعنا كل البيض في سلة واحدة (النفط)، ولما طاحت وانكسرت لم يكن عندنا دجاج يبيض لنا, أي سوق تعطينا أسعارا مرتفعة للخام.
لقد فاض العرض وهبطت الأسعار في مرحلة كنا أحوج ما نكون فيها لاستكمال مسيرتنا التنموية.
لذلك كل أملي أن يكون هناك انتباه حقيقي لأهمية ذلك، وعليه يجب ألا نندهش ونفرح عند الإعلان عن مشروع أو طريق, أو سكة حديد, قبل أن نجيب على سؤال حول ماذا يضيف لنا هذا المشروع اليوم وغدا وفي المستقبل وما هي القيمة المضافة له لتحقيق التنمية المستدامة وليست الطارئة. لا بد إذن أن نقيس الأمور بمعايير أدق. على سبيل المثال في خططنا الخمسية لا بد لنا أن نعرف من بدايتها كم المستهدف من زيادة نسبة الإنتاج غير النفطي, فلو حددناه بـ 10 في المائة سنوياً، لابد أن نصل إلى 30 و40 في المائة كأحد أدنى خلال سنوات الخطة.
وقد طرح نبيل المبارك سؤالا، حيث قال: جهاز الدولة إلى أي مدى ترى أنه معوق في إدارة "الطفرة" على النحو المطلوب؟
العواجي: نعم هو الذي يقود ولكنه هو المعوق في وجه بلوغ غاياتها التنموية. ولكن كيف تكون الإعاقة, فالدولة من خلال أجهزتها الإدارية هي التي تحدد السياسات وتضع الخطط والبرامج التطبيقية، ولذلك فالإدارة هي المبنى الأساسي, فإذا أرادت الدولة أن تدير خدماتها العامة وتدير الاقتصاد فسيظل جهازها الإداري معوقا لها بسبب طبيعة تكوينه ولن تتحقق أهدافها بالمستوى اللازم وسوف تجد نفسها في مواجهة تحديات أكبر تحملها رياح التغيير المختلفة الداخلية المتعاظمة والخارجية المدعومة بالاتفاقات الدولية وآليات العولمة. أما إذا أرادت أن تتبني فلسفة تنموية منفتحة وهو توجه نرى ظهور ملامحه الآن فعلى الدولة أن تتجاوز النمط البيروقراطي السائد وتسعى لتطوير الإدارة واستبعاد الإدارات التي أثبتت ثقل خطواتها في التجاوب مع المستجدات، مع تحويل السياسات والخطط الجديدة إلى سياسات وخطط لها جهات إشراف ومراقبة ومتابعة. فعلى سبيل المثال: قطاع الصحة, حيوي جداً لأنه يتعلق بالصحة, ونحن دولة كبيرة جدا في مساحتها, ومن ثم لا تستطيع أن تنفذ مستشفيات جيدة تغطي كل أنحائها, فكل الدول الأخرى والدول المتقدمة تلجأ إلى التأمين على المواطن وتشرف على الدواء وعلى الطبيب وعلى الممارسة وتضع الخطط للتطوير, يعني مهمتها رسم السياسات والتخطيط ومتابعة التنفيذ, بمعني أنه حتى لو كان الجهاز هذا ليس قويا يظل أداؤه معقولاً, لأنه يخطط ويتابع ويراقب, هذا متاح في ظل الشفافية الأكثر وحرية الرأي. لكن إذا ظلت الدولة شريكا اقتصاديا مهيمنا وليست راعياً اقتصادياً, فأجهزتها لا تستطيع التحكم في مقاومة التغيير, لأنها تحكمها الأنظمة, فموظف الدولة بصفة عامة لا يملك الاستعداد للتغيير، حتى لو جاء للدولة بأفكاره الجديدة وأمضى فترة معينة فهو يتكيف مع الواقع بدلا من أن يغيره، يتكيف لأن المؤسسات الإدارية مثل الكائنات الاجتماعية, لها عاداتها المتوارثة وقواعدها، ولا يستطيع هذا الموظف مهما كان مركزه أن يغير الأمور بسهولة, وفي تقديري الراسخ أن الدولة الآن تطمح بتطوير أجهزتها وتنظيماتها من خلال اللجان والمجالس كالمجلس الاقتصادي واللجنة العليا للإصلاح الإداري, وفيه إجراءات للتطوير, ولكنه تطوير شكلي يعتمد الخطو البطيء, بآليات بطيئة لأن إنشاء هذه ودمج وربط جهة بأخرى أمر سهل، يعني أن تدمج الوزارة مع وزارة أخرى, وتتكون وزارة جديدة, فهذه كلها ممكنة, ولكن المحتوى هو الأساس يعني أنت تظل تفعل لكن لابد أن تغير دورك, فلابد من إعادة تعريف دور الإدارة العامة للدولة من مدير ومنفذ للخطط والبرامج إلى مخطط ومراقب لتحقيق حسن الأداء وهو الحل, وإلا فعلا ستظل الادارة العامة وجهاز الدولة معوقا في كثير من الحالات في اتجاه التغيير فيما المطلوب منه دفع الحركة إلى الأمام.
وعن سؤال وجهه طلعت حافظ في مداخلة حيث قال: ماذا عن بعض الأصوات التي تطالب باللامركزية ونقل بعض صلاحيات اتخاذ القرارات التنموية للإمارات والمحافظات المختلفة؟
العواجي: هذه مطروحة وأنا أعرف أن بعض المسؤولين فعلا جادون ويفكرون في قضية أنه لابد من إنجاز الميزانيات في المناطق. ولنا أن نتصور أن مسؤولاً موجوداً في الرياض, يتخذ قرارات بناء على معلومات وآراء جيدة سواء أكان وزيراً أو وكيلاً أو مدير عاماً, أو مدير إدارة يخص مكاناً وظروفاً محلية لها معطياتها، أعتقد أنه لا بد من الإسراع في قضية اللا مركزية, لأن المركزية تصلح في أمور معينة ذات طبيعة حساسة, ولكن ليس في الخدمات, وليس في الأمور التي تتطلب قرارات آنية.
من ذلك نستنج أن أهم شيء أن يترك كل منا مقولة (أنا الذي أدري والبقية لا تدري شيئا), فالتغيير الإداري مطلوب, ولكنه أيضا مطلوب من ناحية أفقية ومن ناحية رأسية, فمن ناحية أفقية مثل الأشياء هذه التي نقول عليها, ورأسية هي الأمور التي تتعلق بالسياسات والقرارات العامة والمسارات التي يجب أن يسلكها الجميع للوصول إلى النتيجة المطلوبة.
برامج للشباب
مداخلة من الدكتور صالح الشنيفي حيث قال: اسمح لي معاليك بالقول إننا وعلى مدى الخطط التنموية, يمكن الآن الخطة الثامنة, يعني خطط سبعة مضت, ونحن نتحدث عن كلمة سحرية في جميع الخطط وهي بناء الإنسان. هل نحن بأمانة استطعنا أن نبني إنسانا كما في ماليزيا وكما هو الوضع في الفلبين, وكما هو الوضع في اليابان, وهل أوجدنا المناخ المناسب والآليات لبناء الإنسان؟ وكما تفضل معاليك أن مدخلات التعليم ومخرجاته لا تتناسب مع متطلبات التنمية, خلقت لنا جيلا, للأسف الشديد, لا يعي ثقافة العمل ولا الإنتاجية وخلقت لنا مشكلة كبيرة في سعودة الوظائف بشكل عام على مستوى القطاع الخاص, وشكوى عارمة من قطاع المال بعدم جدية السعودي، وعدم احترامه الوقت. هذا كله للأسف انعكس على سلوكيات المجتمع مثل انتشار ثقافة الاستهلاك حتى على مصادر المياه الحرجة بل امتدت تلك الإفرازات السالبة لعدم بناء فكر الإنسان كما يعتقد وانعكست فيما عانته المملكة العربية السعودية منذ فترة من حملات إرهابية شرسة ولا تزال. هل ترون معاليكم أن هذا كله سببه عدم بناء فكر الإنسان الذي يخاف على بلده وعلى مكتسبات بلده؟ وما هو الخلل ودائما نحن نقول نريد أن نبني هذا الإنسان؟
العواجي: وأنت تستعرض الأشكال المختلفة للإنسان السعودي, الآن نسبة كبيرة من المجتمع شباب, فأنا أعتقد أن ما حدث وأدى سواء إلى الانحراف والإرهاب والقتل, أو الانحراف الأخلاقي والضياع الذي يعانيه الشباب وما يجعل بعضهم غير راغب في العمل جديا, هذه كلها تعود إلى أننا لم نكن مهيأين ولم تكن لدينا برامج (ليس تعليمية فقط وإنما فكرية وثقافية وترفيهية)، تستوعب هؤلاء بشكل صحيح, وهم طاقة. فنحن, أي المجتمع, لم نأخذ في الاعتبار أن هؤلاء الشباب يتلقون في كل دقيقة وكل ساعة مؤثرات أقوى من تأثير نظام تعليمنا وبرامجنا التلفزيونية والإذاعية وغيرها أو حتى توجيهات الأسرة. تلك المؤثرات في غياب برامجنا أصبحت تشكل أنماط الحياة التي يمارسها هؤلاء ونحن لا نستطيع أن نمنع ذلك!!
حتى أبنائنا في منازلنا لا نستطيع منعهم من ذلك ولكن نستطيع توعيتهم ومنعهم من الانحراف بأي شكل من الأشكال. وأنا أرى أن عدم الإنتاجية وعدم الرغبة في العمل انحراف, يعني ليس فقط الشاب الذي يتعاطى مخدرات هو المنحرف، بل مجرد أن يكون الشاب غير منتج فهو منحرف، يعني هناك شيء ما خطأ. وأنا لا ألقي اللوم على الآخرين، ولكن هذه المؤثرات أوجدت بيئة مفتوحة, ولو أوجدنا بيئة مليئة بالبدائل الجيدة المحلية التي تستطيع أن تستغل وقت هؤلاء الشباب بالترفيه وفي الوقت نفسه أيضا بالتربية, لكنا تمكنا من احتواء شبابنا وكلهم منفتحون دائما على بيئات تؤثر عليهم سياسيا من خلال انحرافهم الفكري والتكفيري داخل مجتمعنا, سواء سعوديين أو غير سعوديين.
حدث ذلك لأنهم وجدوا بيئة مفتوحة تستطيع استقبال كل شيء, ولذلك علة شبابنا أنهم فاقدو الهوية الآن, فهم الآن في حالة تذبذب, كأنهم يبحثون عن هويتهم, فيبحثون عنها في البرامج المغرية, وفي القضايا المختلفة, أو حتى من خلال الإرهاب وتدمير وطنهم. السؤال هنا لماذا تضعف الهوية؟.. الهوية ضعفت لأن المجتمع ليس لديه وسائل تأثير على الأجيال إلا من خلال المدرسة, وأنت تعرف أن في المدرسة جوانب إيجابية وجوانب سلبية, لكن من يتولون التربية في المدرسة أساسا في الغالب ليسوا معنيين بالتربية الوطنية والتربية الذاتية, إن لم يكن هناك من يعارضها مبدئياً.
والمسجد, طبعا تعرف المسجد إلى أن تنتهي الصلاة أو الخطبة, ثم ماذا بعد ذلك؟ أين التأثير الذي يؤثر في الشباب؟ أما الأهل, نعم, كانوا في الماضي لهم تأثير علينا, لأنه لم تكن هناك بدائل أخرى أمامنا نحن كشباب, ليس عندنا إلا أهلنا, ولكن الآن طبعا الأهل, ومنذ بداية الطفرة الأولى توقفوا عن أداء دورهم وصاروا يركضون خلف المادة ومشاغل الحياة وأصبحت لديهم روح الركض, مجتمع صار يركض ويركض دونما توقف. انحسرت المادة وقل دخل النفط لكنهم لم يتوقفوا عن الركض, وإلى أين؟.. كلهم إلى شيء يعتقدون أنهم يريدون الوصول إليه وهو تنمية المصالح!!
هذه الحالة من الركض هي التي أفرزتها لنا الطفرة الأولى إذا صح التعبير!! وهي التي جعلت الشباب في مرحلة ـ قبل هذه المرحلة ـ شباب يعيش في حالة غير متوازنة لعدم وجود مؤسسات مختلفة تتعامل معهم وتشكل هويتهم وتساعدهم على تشكيل ذلك والتعرف على قيمة العمل, وقيمة الوقت قبل كل شيء, وكل هذا إذا عرفه بالصدفة، أو من أهله أمر جيد، لكن يظل هو مع مجموعته فيتأثر, ولذلك هذا هو الجواب. لقد تحدثنا عن بناء الإنسان وأهميته كعنصر رئيس في النظام الاقتصادي, لكن هل يكفي أن نفتح مزيداًً من الجامعات, أو حتى من الكليات التقنية, هل يكفي؟.. هذا سؤال أثبت أنه لا يكفي, يمكن أن نقضي على الاحتياج الكمي, بحيث إن كل إنسان يجد كرسياً يجلس عليه, لكن هل يكفي أيضا مرة أخرى, أن نغير في برامجنا التعليمية بحيث نعدلها لتحقق أهداف التنمية؟؟.. حتى لو تحقق هذا الشيء أي التعليم الكمي والكيفي, هذا في نظري لن يكون كافياً لإنتاج إنسان منتج, فلا بد من إيجاد مؤسسات اجتماعية مختلفة تتكامل مع المدرسة, التي لا بد أن يعاد النظر في دورها ومحتواها, ولكن في الوقت نفسه لا بد من وجود مؤسسات اجتماعية مختلفة, كمؤسسات المجتمع المدني، بدلاً من ترك هذا الشاب نهباً للفراغ ولتأثير الآخرين والتأثيرات الأخرى الوافدة علينا من مختلف وسائل الاتصال التي لا يستطيع أي أحد أن يتحكم فيها ويجد شبابنا عندها بدائل أخرى بجانب التعليم, فالتعليم لا يملأ كل حياته, لأن لديه فراغا وعنده وقت وشخصية مشوشة.
لو ملأنا هذا الفراغ واعدنا صياغة مؤسساتنا التعليمية ودرسنا ماذا يحتاج شبابنا لتمكنا فعلاً من بناء إنسان منتج ولكن هذا بدوره يعيدنا إلى المربع الأول وحديثنا عن مقاومة التغيير. لنفترض أننا قررنا إيجاد مؤسسات معينة للترفيه ومؤسسات معينة لنشاط من النشاطات المختلفة, ولكننا نعرف أن هناك شريحة في المجتمع لا تريد التغيير, فهنا مقاومة التغيير, فأنا كصاحب القرار عندي اختياران, إما أن أترك هذه الشريحة الصغيرة أو الكبيرة هي التي تقرر وإما أن أقوم بإحساس المسؤولية باتخاذ القرار. فأخطر ما في موضوع مقاومة التغيير إذا كان ليس من قبل صاحب القرار, أن يحدث ذلك دون إدراكه أو معرفته بوجود مقاومة من الآخرين في كل الأحوال. ولكن الأفضل ألا نفرض التغيير على الآخرين, ولكن أن تشرح لهم وتقنعهم بأن هناك مصلحة من التغيير على مبدأ المصالح المرسلة. يجب أن يفهم الآخرون أن هناك مصلحة, وهذا حقهم كمواطنين. لقد انتهينا من زمان تصدر فيه قرارات عمياء ولا تبرر. يجب ألا يُفهم الناس ليقنعوا, لكن حتى إذا ما اقتنعوا كلهم أو اقتنع بعضهم, فإن هناك مصلحة في اتخاذ القرار. نذكر أن الملك فيصل لما أراد فتح تعليم البنات وجد مقاومة وكلنا نعرفها, إلا أنه وصل إلى قناعة واستطاع أن يتخذ القرارات وفتح التعليم ـ ولما حرر العبيد ـ كلها كانت قرارات تاريخية, فالقرارات التاريخية هي القرارات التي أتت مدروسة وليست ارتجالية، بل آخذاً في الاعتبار العناصر الأخرى كافة وتتخذ قرارك على أساسها, لأن الأجيال القادمة, هم الذين سيديرون البلد, ومن الآن هم بدأوا يديرون البلد وهم في سن إدارة البلد, والبلد طبعا ـ قصدي بما فيها ـ قطاع عام وخاص. اذن يجب أن يكون للدولة دور, ويجب أن يكون لها سياسة ولها برامج ولها خطوات تتخذ وتنفذ, وأيضا نحن بحاجة إلى رقابة على تنفيذ القرارات.
كل يغني على "ليلاه"!!
ويطرح نبيل المبارك سؤالا حيث قال: أريد أن أسأل عن الطرح الذي طرحته بخصوص أهمية الإنسان في الخطط السابقة, فبما أنك شاركت في وضع واحدة من هذه الخطط, فهل هذه الخطط تطرقت لأهمية الإنسان أو دخلت لتفاصيلها بشكل معين, وإذا نفذت فهل هي نفذت بالشكل الصحيح أو أقل؟
العواجي: طبعا الخطط ركزت على التنمية الاجتماعية بكل أوجهها ولو قرأنا الأهداف, سنفاجأ أن الذي وضعها حالم أو عالم وسنجد أن الخطة قبل 15 أو 20 سنة تطرقت إلى أشياء موجودة الآن. ولكن المعضلة في آلية تنفيذ هذه الأهداف وهي متروكة للأجهزة, وكل جهاز يغني على (ليلاه)!!.. وكل يعمل بما يعتقد أنه صح, لكن قد لا يكون لهم قدرات. هذا يحدث لأنك قد تأتي بوزير على رأس وزارة, وهو يملك رؤية معينة, لكنه يصطدم بواقع معين ويقاوم وفي النهاية يستسلم, أو يكون لديه خيار يجعل الآخرين يقبلون الفكرة, لأنه حتى إذا كنت وزيراً وتريد أن تفرض على الآخرين تنفيذ أفكار فالأصح أن تتقمص دور البائع المحترف وعليك أن "تبيع" الفكرة على من حولك وإقناعهم وهنا لا بد من استخدام مجموعة من الأساليب لتوصيل الفكرة ليجد من يتحمس لتنفيذها.
ومداخلة من الدكتور عبيد المطيري قائلا: نحن الآن ندور حول ضعف الأداء, سواء من ناحية مؤسسات الدولة أو من ناحية مؤسسات القطاع الخاص, أو من ناحية المجتمع, وهذا تحد كبير بالنسبة إلينا في المرحلة المقبلة, ما أصبح لدينا (ما أسميه) هوس اسمه الاستراتيجية، وخاصة خلال السنوات الثلاث الماضية, مثلاً إدارة المرور تقول عندها استراتيجية, في التعليم بدأ الآن في استراتيجية, وزارة الاقتصاد والتخطيط عملت استراتيجية للأعوام 2020 ـ 2040م. فالاستراتيجية تحتاج إلى آليات وأدوات, لكن يبدو لي أن الفرد هو الفرد, ما تعليقكم, فهل طبيعتنا حقاً تتناسب مع ما نسميه استراتيجية وخطة عمل, أم أن طبيعتنا هو العمل بشكل ارتجالي؟
العواجي: أنا أعتقد أنه من المهم وجود استراتيجيات تحدد الأهداف هذا مطلوب, لكن الاستراتيجية ما لم تأخذ في الاعتبار أدوات تنفيذها فستكون خيالية تعبر عن أحلام ورغبات وأمنيات. وهي أي الاستراتيجية لابد أن تكون واقعية, تعرف ما هو ممكن فهذا هو المطلوب. على سبيل المثال لو وضعنا استراتيجية من سبعة عناصر, وجاء من يسأل عن هذا العنصر أو ذاك مَن سينفذها؟ وقلنا إن هذا العنصر يجب أن ينفذ رغم أنه غير قابل للتنفيذ فهذا يعني أن الاستراتيجيات افتراضية. أردت القول إنه ليس المطلوب أن تكون الاستراتيجية هي الهدف, والاستراتيجية هي اللوحة الوردية للأحلام والرغبات, لا, الاستراتيجية يجب أن تكون قابلة للتنفيذ, بمعنى آخر: أن يؤخذ في بنائها العناصر التي سوف تقوم بتنفيذها. ولا أعني بذلك أن تتحكم أدوات التنفيذ بالأهداف, ولكن أنت تأخذها في الاعتبار بحيث عندما نضع استراتيجية, ينتج عنها أهداف, والأهداف ينتج عنها خطط, والخطط ينتج عنها برامج, والبرامج هي أفعال من مشاريع أو غيرها, وهذه كلها تكون ضمن إطار وقت. أما عندنا فكل منا يعمل استراتيجية وخططا ويحلم ويعلنها ويقول للناس أنا وضعت استراتيجية!!
"التخصيص" لماذا؟
ويطرح الزميل عبد الله الشماسي سؤالا قال فيه: ماذا عن سياسة التخصيص؟
د. العواجي: كما أشرت سلفاً فإن التخصيص لم يكن هدفاً استراتيجياً بقدر ما هو استجابة للحاجة الملحة لإخراج بعض القطاعات الخدمية الحيوية كالاتصالات والكهرباء من براثن الدب البيروقراطي لذلك لم تستكمل حلقاته بعد لأنه وليد عمل لجنة وزارية وكما هو معروف فإن مخرجات اللجان غالباً ما تكون محدودة الأثر والتخصيص تنظيم أساس لتحرير الخدمات والنشاطات من قيود النظام العام وإدخالها لمنظومة النشاط التجاري الحر وعلى الرغم من نجاح التجارب المحدودة فإنا لم نر بعد خطوات جادة وفي إتمام العملية التخصيصية وأتمنى أن نستفيد من تجارب الآخرين في كيفية التعامل مع الموضوع, فهناك دولة مجاورة ذات موارد مالية محدودة استطاعت إخراج الموضوع من دائرة الجهاز المعني إلى هيئة مستقلة مربوطة بالسلطة العليا لتحقيق أهداف التخصص وقد نجحت في إنجاز كل ما يمكن تخصيصه في مدة زمنه قصيرة. لذا لا يمكن أن نطلب من الوزارات والمؤسسات الحكومية أن تخصص نفسها, لأن هذا يتعارض مع طبيعة الأمور ولا بد من إيجاد آليات تنظيمية مبتدعة لبلوغ هذه الغاية
في دول العالم, في فرنسا الدولة لا تزال تملك صناعات كثيرة ولكنها تعمل كقطاعات خاصة, ولا تتدخل الدولة في إدارتها أو تشكيل مجالسها.
مداخلة من نبيل المبارك حيث قال: لي نقطتان, الأولى أننا في المملكة عشنا تلاقحا كبيرا في الإدارة من كل الأجناس ومن ناس مختلفة, من مصر والأردن والشام ومن مدارس غربية, فأصبح لدينا نوع من الوليد المشوه, لأن التجربة لم يتم توظيفها بشكل سليم. الجانب الآخر وهذا من تجربة الحكومة ذلك أن النظام الموجود في الحكومة حتى في الجهات الحساسة التي تشرف وتراقب (القطاع البنكي مثلاً) لا يمكن أن تأتي بمشرف وعنده مؤهلات وقدرات مالية ضعيفة ليشرف على خبير بإدارته يراوح راتبه بين 100 أو 150 ألفا، فيما هو راتبه 8 - 10 آلاف ريال. هل تعتقد أننا لم نستفد من التجارب هذه حتى الآن؟ لأنه فعلا وكما تقول فإن الطفرة القادمة تمثل نوعا من التحدي الكبير على الحكومة. كيف وأين نجد الكادر المؤهل الذي يواجه عمليات الاحتيال والتجاوز سواء لمؤسسة النقد, أو هيئة سوق المال, أو وزارة المالية, أو أي جهة أو حتى في الداخلية؟
العواجي: أولا تعرفون أن نظامنا الإداري هو أساسا نظام مصري، يحمل بصمات مصرية في تركيبها, وعانت الإدارة كثيرا ولا تزال عبر أجيال مضت، ومع ذلك لا تزال موجودة. وهذا ليس إنقاصا في الإدارة المصرية وهي فعلا ربما كانت مناسبة لنا في مرحلة التأسيس، لأن الملك عبد العزيز ـ رحمة الله عليه ـ مؤسس الدولة العظيمة وموحدها استطاع أن يستفيد من النظام الموجود ويطوره. لكن الدولة لديها الوظيفة العامة, والناس يتسابقون عليها وعلى الدخل المحدود الذي توفرها الوظيفة. أما لو قارنا دخل الموظف بالتضخم المعيشي وارتفاع الاحتياجات لدى الفرد والأسرة الحكومي أنه تجب إعادة بناء الكادر الوظيفي للدولة على أسس دقيقة لاحتياج الإنسان أولاً، فسوف يتجه الموظف الكفء إلى المجالات الخاصة التي فيها حيوية وديناميكية ودخل عال أي لا يمكن للحكومة جذب العناصر المؤهلة إلا إذا وفرت لها ما يكفي لمعاشها وإلا فسيتركونها وهم المدربون إلى غيرها.
البعد الثاني, ليس فقط قضية الراتب, فهناك عوامل أخرى تتعلق بأجهزة,عدا الدولة التي تعاني تضخما فلو تم تحسين أوضاع نصف موظفيها لكفي ولأعطوا إنتاجية أفضل مقارنة بما نفعله الأن في معالجة الأعداد المتزايدة منهم وزيادة الأقسام, والتدريب وهو وحده لا يكفي, لأنه لا بد من وجود حوافز, لأن العناصر الحيوية التي ترى أن رواتبها لا تكفي تترك العمل وتبحث عن الأفضل مهما كانت التحديات. إذن الدولة عليها أن تبني نظامها الوظيفي على الإنصاف والعدل في الحوافز, بدءا من حقوقها الأساسية الراتب, والثاني إعادة النظر فيما يسمونه البطالة المقنعة.
أما الجانب التنظيمي للأنظمة المستوردة منذ البدايات فقد تترك بصمة الناقد في عقل الإدارة السعودية ولم تتمكن محاولات الإصلاح الإداري في النجاح إلا في الهيكل (الشكل) وظل المضمون روتينياً يأخذ بمبدأ الزحلقة إلى أعلى أو إلى أسفل في اتخاذ القرارات بالتوسع في أنماط إدارية أخرى كاللجان والمجالس لمواجهة القضايا المهمة.. وهذا حصل رغم وجود قيادات إدارية مؤهلة تعلمت في الخارج واكتسبت معارف وخبرات جديدة والسبب هو أن هناك في العقل الظاهر أحياناً والباطن أحياناً مقاومة للتغيير لاسباب ذكرت بعضها وأضيف إلى ذلك أن تغيير ما هو مألوف ليس بالأمر المحبب لدى الإنسان بصفة عامة أما حين يحمل هذا التغيير احتمال المساس بالسلطة الإدارية أو بالخوف من الجديد فهذا أمر آخر, ولكي ندرك مدى صحة ذلك علينا تتبع مدى استجابة بعض الأجهزة المفصلية في مجال التنمية لمتطلبات خطط وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بعدها الزمني وبحضور واع لعامل الوقت بالرغم من تغيير وزرائها ووكلائها مرات ومرات.. ثم كيف نتوقع من الوزير أن يحدث التغيير المطلوب وهو يقضي جل وقته باللجان والاجتماعات الطارئة والدائمة والسفر إلى الداخل والخارج وكل ما يستطيع هو تغيير بعض القيادات بأخرى وإن حاولت هذه القيادات في البدء الحديث عن وجوب التطوير فإنها تحت وطأة الواقع تتكيف مع مسلماته وقيمه.
ويوجه الزميل عبد الله الشماسي سؤالا: هل ممكن أن نقول إن النظام الحكومي طارد للخبرات المؤهلة في القطاع الحكومي؟
العواجي: صحيح, القطاع الحكومي طارد لكل العناصر التي عندها طموح.
إذن كيف يمكن أن نعالج هذه الآن خاصة أن هناك بعض القطاعات التي تحتاج إلى مؤهلين, والمؤهلون هؤلاء تكلفتهم عالية؟
العواجي: عن طريق إعادة النظر في دخل الموظف وكادره وإعطائه الشيء الذي يجعله يشعر بأنه مستعد للتفرغ وللتركيز أكثر في عمله, يعني أن نحرره من القلق على معيشته أو حتى كيف يدفع فاتورة الكهرباء هذا إذا كنا نتوقع منه الأمانة التامة في ممارسة مسؤولياته ولكن نظام الخدمة المدنية لا يسمح؟
وأنا أقول مع تقديري لهذا النظام، إنه يجب أن نضعه على الرف ونضع بدلاً عنه نظاماً جديداً, هذا بالضبط ما يجب أن يحدث, فهذا النظام ليس مقدساً, ولكن المقدس هو فقط كتاب الله.
شركة جديدة للتعليم قريبا
ويوجه الأستاذ طلعت حافظ سؤالا قال فيه: ماذا عن التوجه لتخصيص التعليم؟
العواجي: التعليم مكلف, خاصة إذا كنا نريده بالجودة التي تخدم المجتمع, الآن لدينا مجموعة من الجامعات الخاصة وهناك شركة تم تأسيسها لهذا الغرض أنا أرأس هيئتها المكونة من نخبة من العلماء والأكاديميين, ومؤسسو الشركة مجموعة من رجال الأعمال والمستثمرين, وهم وضعوا خطة ومشروع في المملكة ووضعوا مبلغا ضخما وقرروا اقتطاع جزء من رأسمالهم لمؤسسة وقف تمتلك تدريجيا هذه المؤسسة التعليمية.
ولكن هل في تشجيع التعليم العالي الأهلي اعتراف بإفلاس مؤسساتنا التعليمية الحكومية تجاه استحقاقات التنمية والمجتمع النوعية من التعليم، أم أنه أتى بدافع الحاجة إلى توزيع العبء الكلي؟. مهما كان الباعث فإنها تمثل خطوة صحيحة مطلوبة وإن جاءت متأخرة بعض الشيء.. نحن بحاجة إلى نظام تعليمي يؤسس لتراكم معرفي ولإخراج الإنسان المهيأ للعمل في أحد مجالات العمل المتطورة في جو تنافسي تلعب فيه الجهات الرسمية دور المشجع والحافز الإيجابي، فبالإنسان المؤهل وحده يمكننا بناء نظام اقتصادي قادر على مواصلة النمو من جهة ومواجهة المتغيرات المحتملة من جهة أخرى لأن الإنسان المنتج هو الضمانة ضد التحولات السلبية التي سنواجهها في الزمن المقبل.
المجتمع المدني
ويطرح الدكتور صالح الشنيفي سؤالا قائلا: غياب المجتمع المدني والمؤسسات المدنية المفهومة والمعروفة عالميا هل هذا أسهم في تأخرنا في كثير من أمورنا بالذات على مجال التعليم وعلى مستوى الأسرة؟ وهل تعتقد الآن في الألفية الجديدة أن لدينا أو استطعنا أن نبني مؤسسات بمعنى جمعية حقوق الإنسان, مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني, أم نحن بحاجة لبناء أكثر من هذه؟
د. العواجي: أنا أعتقد أنه من أجمل ما حصل عندنا في السنوات الأخيرة هو موضوع الحوار الوطني بصرف النظر عن أي تحفظات, لأنه تعامل مع قضية مفصلية من قضايا الوطن, كانت خطوة تسجل تاريخيا, لأنها فعلاً أسهمت في الحديث عن الممنوع, وحديث مباشر. فالحوار الوطني لو صار مؤسسا يعزز تطور المجتمع المدني لدينا، بمعنى لو تأسس وصار له آليات متنوعة تجعل الناس يشاركون بشكل مستمر. ولو علم كثير من المسؤولين في الدولة أن المجتمع المدني هو الذي يساعد أجهزة الدولة ويؤدي كثيرا من مهامه, لكانوا أكثر تشجيعا ودعما.
لو عدنا إلى الانتخابات البلدية التي شهدتها المملكة قبل نحو عام نلاحظ أن هناك من تحدث عن قبلية وإقليمية وكان جوابي آنذاك أن المجتمع المدني هو الذي يستطيع أن يحتوي كل هؤلاء, لماذا؟ لأن المهندس أو المحامي أو الطبيب أو العامل يبحث عن مصلحته التي يمكن أن يجدها كل واحد في مجموعته المهنية. فالتكتل في مثل هذه المجموعات المهنية يمكن أن يؤدي إلى إضعاف المكونات الأخرى التي قد تؤثر سلبيا في المجتمع مثل القبلية أو الجهوية وغيرهما. وهكذا ما لم يكن لدينا مكونات المجتمع المدني فالتأثير الأقوى سيكون للتكوينات الأخرى سواء القبلية, الأسرية, الإقليمية, لأن الإنسان يحتاج إلى ناس يفهمونه, يحتاجهم ويحتاجونه, ولكن إذا صار عضواً في منظومة اجتماعية تقدم له خدمات وتحميه, فمع الوقت تحل هذه محل الولاءات السالبة دون أن ينقطع عن علاقته بأسرته وقبيلته.
كما أن مكونات المجتمع المدني يمكن أن تساعد الدولة, سياسيا, واقتصاديا واجتماعيا لأنها كلها تصب في التطوير والتحسين, فبالتالي هي أجهزة رقابة, وأجهزة متابعة, وأجهزة تنفيذ, مثلما هي أجهزة تحمي مصالح أفرادها. وفي المجتمعات المدنية الوزير المختص يستطيع استخدامها كأداة للمراقبة الخارجية, ولذلك أرجو إن شاء الله أن نرى قريباً مثل هذا التوجه أنا أعتقد أنه من أجمل أشكال المجتمعات المدنية ما تضمنه نظام الشؤون الاجتماعية الذي ومنذ تأسيس الوزارة نص على تكون مراكز تنمية اجتماعية للأحياء, وفي التنظيم نفسه فيه اللجان, وهذا الكلام قبل نحو30-40 سنة لا أدري متى بالضبط, المهم في الرياض تأسست في الرياض وفي مدن أخرى مراكز تنمية الحي لتطوير الأحياء بواسطة أهلها وهي نواة مجتمعات مدنية تشرف عليها وزارة الشؤون الاجتماعية.
هذه المراكز التنموية تقوم بما لا يقوم به غيرها, ندوات عن الأسرة للآباء وللأمهات. الفكرة بناء مركز ليقدم خدمات, وبرامج تدريبية وثقافية لشرائح المجتمع كافة. وهي تؤدي حتماً إلى تعلم الناس قيمة العمل التطوعي، والمسؤولية الاجتماعية.
ومداخلة من الدكتور عبيد المطيري حيث قال: عندي قضيتان, الأولى الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص, فيعاب على القطاع العام أنه يطعم بمسؤولين أو بفكر بيروقراطي, وهناك من يعتقد لكي تنجح هذه الشراكة يجب أن يطعم القطاع العام بخبرات قطاع خاص, كالوزراء كنواب الوزراء لأنهم هم أكثر على التفاهم والتناغم مع القطاع الخاص, هذا واحد.
والثانية, ماذا عن إحياء مراكز الأحياء, كما هو في الخارج, يكون فيه مركز للحي, بحيث إن هذا يعرف أهل الحي, يعني العمدة, ولكنه بطريقة أكثر علميا يتعرف على الحي يجتمع الحي مع بعضه البعض في نفس الحي ويتبادلون الحديث ويكونون عارفين ورقباء على بعض؟
د. العواجي: مؤكد إذا اتخذ قرار سياسي أن يكون لدينا قيادات للخدمة المدنية بالمواصفات التي أشرتم إليها، هذه فعلا قد تكون إحدى آليات تطوير القطاع العام، ومؤكد أنه سيكون تغييرا إيجابيا, لأن تطوير الأجهزة يتناغم مع حركة القطاع الخاص في الوقت نفسه. لكن (وهذا بعد مهم), لا نستطيع ضخ قيادات من القطاع الخاص للقطاع العام لأن الحوافز في القطاع العام غير كافية, وربما لن نجد من يأتينا وزيراً أو نائب وزير, أو وكيل وزارة من القطاع الخاص ليتقاضى 17 ألف ريال, إلا إذا كان غنيا ويريد أن يأخذ مركزا وجاهياً فقط.
ويوجه الزميل عبد الله الشماسي سؤالا: هل نحن مهيئون إدارياً للدخول للمرحلة الجديدة للتطور الاقتصادي؟
د. العواجي: الواقع أننا توغلنا عميقاً في هذه المرحلة الجديدة من التطور الاقتصادي وعنوانها الرئيس منظمة التجارة العالمية، فيما عناوينها الجانبية: الانتعاش، النمو، الانفتاح الطفرة.. إلخ، وسواء كنا مهيئين أو غير مهيئين فقد بدأت مرحلة جديدة من الطفرة والانفتاح ولكن لا بد أن نعترف أن جهوداً طيبة بذلتها حكومتنا الرشيدة ولو متأخرة حققت لنا درجة من التهيؤ والاستعداد لها، إلا أن المهم انه لم يعد أمامنا أي اختيار غير التعامل بإيجابية مع هذه التطورات لأن فتح أبواب التنافس من أهم الوسائل لتطوير النشاطات الاقتصادية الإنتاجية والحديثة!!
ومع ذلك فهناك فرق بين ما يمكن أن نسميه الطفرة الأولى والثانية هذه، ففي الطفرة الأولى كانت المعادلة أولية وبسيطة جداً وهي أن أمامنا إيرادات وأموالا ضخمة وعلينا إنشاء مشاريع بنية تحتية وغيرها لامتصاصها (فالذكي والشاطر بدأ يأخذ الفلوس وينفذ). أما الطفرة الثانية فهي معقدة ومتداخلة وتحتاج لقدرات تستجيب وتتفاعل وتدرك العوامل الخارجية، طفرة تعني تحولاً اقتصادياً هيكلياً ربما من المحلي إلى العولمي.. ويبدو أننا نتحول ليس فقط نتيجة زيادة أسعار النفط, وإنما تحول يرتبط بانضمامنا لاتفاقية التجارة العالمية, وللعلاقات الخارجية الجديدة ولانفتاحنا على العالم ولذلك هذه المرحلة أخطر، لأن إدارة الطفرة داخليا ممكن لكن أبعادها الدولية تحتاج إلى تطور إداري أفضل في القطاعين العام والخاص ولكي نكون أكثر تهيئة, فنحن مطالبون بعدة خطوات أساسية تمس التعليم والتدريب، ودور الإدارة العامة من المدير (بتاع كله) إلى الشريك في مسار الحياة العامة اقتصاديا من خلال استكمال التخصيص, واجتماعياً من خلال تشجيع وتقنين مؤسسات المجتمع المدني.