قراءة في الميزانية
في يوم الإثنين الرابع من شهر المحرم لعام 1431هـ صدرت الميزانية العامة للدولة, حيث أصدر خادم الحرمين الشريفين ثلاثة مراسيم بشأنها. وبلغت ميزانية الدولة في إيراداتها 470 مليار ريال, أما المصروفات فقد بلغت 540 مليار ريال, وبعجز يقدر بـ 70 مليارا, وذلك بناء على التقديرات بشأن أسعار البترول التي تتحكم فيها عوامل كثيرة سياسية, اقتصادية, ومناخية, وما من شك أن الاعتماد الأساسي في هذه الميزانية, وغيرها من ميزانيات السنوات الماضية على دخل البترول, حيث نسبة الإيرادات البترولية تمثل 86 في المائة بينما تمثل الإيرادات غير البترولية 14 في المائة. وهذا من شأنه أن يحفز الهمم خاصة على مستوى الجهات المعنية على زيادة الجهد لإيجاد مصادر دخل جديدة بدل الاعتماد على البترول, وهذه هي الفرصة المناسبة لخلق البدائل, خاصة الاستثمار في العنصر البشري من تعليم وتدريب, لأن العقول المتعلمة قادرة على إيجاد البدائل بتوفيق الله, ولنا في دول أخرى فقيرة في مواردها الطبيعية كاليابان, كوريا, وماليزيا مثال جلي على قيمة وفاعلية العقل البشري في التنمية.
وبقراءة متأنية في أرقام الميزانية يتبين أن ما خصص للتعليم والتدريب والابتعاث ممثلاً في برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث, إضافة إلى ألفي بعثة لمصلحة المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني, يفوق 137 مليار ريال, وتشير الإحصائيات إلى أن ما تم صرفه على برامج الابتعاث خلال العام الحالي 1430/1431هـ بلغ تسعة مليارات ريال, وهذا المبلغ الضخم يبشر بخير إذا تم استثماره بشكل جيد, إذ إن الاستثمار الصحيح يتم من خلال اختيار الأنسب من المتقدمين لبرامج الابتعاث على أن تكون برامج الابتعاث في التخصصات الملحة والمطلوبة في سوق العمل, ومع إدراكي أنه لا بد من هدر يحدث نظراً لما يواجهه المبتعثون من صعوبات في التكيف, أو في الدراسة إلا أن النتيجة الحتمية ستكون في مصلحة الوطن على المدى البعيد.
لاحظت - وأنا أقرأ الميزانيات المعتمدة للمؤسسات العامة ذات الميزانيات الملحقة بميزانية الدولة كالجامعات, سكة الحديد, الخطوط السعودية, المؤسسة العامة لصوامع الغلال, مطاحن الدقيق, وغيرها - اختلافاً بين الإيرادات والمصروفات مع أن بعضها لها إيرادات قوية نظراً لمنتجاتها التي تبيعها لجمهور المستفيدين من خدمات أو سلع. على سبيل المثال لا الحصر المؤسسة العامة للموانئ قدرت إيراداتها بمليارين و872 مليون ريال في حين قدرت مصروفاتها بمليار و490 مليون ريال, أي أن هناك فائضاً في الإيرادات يفوق مصروفاتها, وهذا شيء جيد, وما يفترض أن يحدث في جميع الجهات المنتجة للخدمات, وهذا ينطبق على المؤسسة العامة لصوامع الغلال, ومطاحن الدقيق, حيث جاءت إيراداتها أكثر من مصروفاتها بفارق يصل إلى ما يزيد على 400 مليون ريال, وذلك لأن منتجاتها في السوق تحقق الأرباح التي تجعلها تدير نشاطها بكفاءة, وما يزيد يمكن صرفه على مشاريع مستقبلية, أو يمكن ترحيله إلى مجالات أخرى. الجامعات, وهي من المؤسسات العامة أرقام إيراداتها جاءت مطابقة لمصروفاتها, وأفهم مثل هذا الشيء لأن الجامعات لدينا لم تصل بعد إلى مرحلة النضج التي تؤهلها لتقديم منتجات يمكن تسويقها داخلياً, أو خارجياً, كالمخترعات, والبرامج, والخبرات, والاستشارات, وطرق العلاج, ورسم الخطط, رغم أنها بدأت في هذا المشوار, لكن إيراداتها من هذه المنتجات لا تزال محدودة, ولا يمكن الاعتماد عليها لتكون مورداً أساساً لمصروفاتها, ولذا فهي في الوقت الراهن تعتمد بصورة رئيسة على المخصصات التي تعتمدها الدولة لها في ميزانيتها العامة, على أمل أن تصل جامعاتنا في يوم من الأيام إلى مرحلة شبه اكتفاء بإيراداتها.
المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية إحدى المؤسسات العامة وتقدم خدمات السفر ونقل البضائع منذ عقود تصل إلى ما يقارب 60 عاماً, وأتوقع أنها مع هذا العمر المديد اكتسبت الخبرة الكافية, خاصة أنها كانت إلى وقت قريب الناقل الوحيد, التي تؤهلها للاكتفاء بإيراداتها, لقد لاحظت أن الإيرادات جاءت مطابقة للمصروفات مثلها مثل الجامعات, أو أي مؤسسات عامة أخرى ليس لها حتى الآن منتجات يمكن تسويقها كالمؤسسة العامة لتحلية المياه التي لم تصل حتى الآن إلى الاكتفاء بالإيرادات نظراً لقلة الإيرادات مقارنة بالمصروفات, وذلك لصعوبة بيع المياه بسعر تكاليف إنتاجها لأن المواطن لا يمكنه تحمل مثل هذه التكلفة, رغم أن مقارنة «الخطوط السعودية» بغيرها من المؤسسات غير عادلة نظراً لملايين المسافرين الذين تنقلهم داخلياً وخارجياً, إضافة إلى البضائع.
كما لاحظت استثناء «الخطوط السعودية» من بعض أحكام الميزانية التي على المؤسسات الأخرى الالتزام بها, ولم أفهم سبب هذا الاستثناء, خاصة في المادة الرابعة عشرة, التي تعطي الجهات الرقابية الحق في متابعة تطبيق ما تقضي به الأنظمة, وقد يكون السبب في هذا الاستثناء عملية التخصيص التي تمر بها «الخطوط السعودية».
الميزانية بأرقامها الضخمة تبشر بالخير العميم, لكن تنفيذ المشاريع المعتمدة فيها يتطلب عناية تامة من جميع الجهات المنفذة والرقابية, إذا ما أردنا أن ننعم, وتنعم الأجيال المقبلة بهذه المشاريع, وهذا لن يتم ما لم نُفَعِل مبدأ المحاسبة, ونقوم بالمراقبة بالشكل الصحيح .. فهل نحن فاعلون؟!