تقارير و تحليلات

حرب المعادن الاستراتيجية تؤرق الاقتصاد العالمي .. إفريقيا قلب الصراع ومحصلة الأسواق "صفرية"

حرب المعادن الاستراتيجية تؤرق الاقتصاد العالمي .. إفريقيا قلب الصراع ومحصلة الأسواق "صفرية"

حرب المعادن الاستراتيجية تؤرق الاقتصاد العالمي .. إفريقيا قلب الصراع ومحصلة الأسواق "صفرية"

ربما تتباين آراء الخبراء بشأن ما إذا كان العالم يشهد بالفعل حربا تجارية صامتة أم لا. فكثير منهم يقر بأن المنافسة التجارية على المستوى العالمي عنيفة، حتى بين الحلفاء الذين يقفون في معسكر واحد، لكنهم يؤكدون في الوقت نفسه أنها لم ترق بعد إلى مستوى الحرب التجارية.
في المقابل هناك ما يشبه الإجماع بأن العالم يشهد بالفعل حربا تجارية حقيقية عندما يتعلق الأمر بالهيمنة على أسواق المعادن، خاصة الاستراتيجية منها.
أما الخلاف في هذا الشأن فيدور حول ما إذا كانت حرب المعادن ستتصاعد وتستعر نيرانها في الأعوام المقبلة، أم أن أطراف الصراع سيدركون حجم الدمار الذي يمكن أن تلحقه نيران الحرب - خاصة إذا اتسع نطاقها - بالاقتصاد العالمي، ما قد يدفع الجميع إلى البحث عن تسوية سلمية تخفف من وطأة النزاع وحدة الصراع.
لا شك أن الوتيرة المتسارعة دوليا لإزالة الكربون تعمل على تأجيج سباق ساخن على المعادن، ويتطلع الجميع إلى ضمان الوصول إلى المعادن الضرورية لإنتاج التقنيات الخضراء، حيث تتركز الاحتياطات في عدد محدود من البلدان، كما تتركز أيضا القدرة على استخراجها وتصنيعها في عدد أقل من البلدان.
وفي العقد الأخير تصاعد خطر احتمال اندلاع صراع بالإنابة بين البلدان المتنافسة للوصول إلى المعادن، ومع تنامي قيود التصدير من قبل البلدان التي تتركز فيها الاحتياطات المعدنية، ومع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية والعقوبات التي فرضت على روسيا أحد أبرز اللاعبين في سوق المعادن العالمية، وتنامي النزاع الأمريكي - الصيني في عديد من المجالات، وفي المقدمة منها سوق السلع الحيوية، بات الإدراك والوعي العالمي يتزايد بأن قضية الصراع على المعادن قضية حاسمة في استراتيجية الأمن الاقتصادي.
في عام 2020، احتلت الصين الصدارة بين مجموعة الدول الست التي فرضت قيودا على تصدير المعادن، وتلك الدول هي: الصين، الهند، الأرجنتين، روسيا، فيتنام، وكازاخستان. والآن أصبحت قيود الصين على تصدير المعادن أكبر تسع مرات مما كانت عليه عام 2009.
وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قررت واشنطن منع وصول الصين إلى المعرفة التكنولوجية الأمريكية لإنتاج أشباه الموصلات المتقدمة، وردت بكين في كانون الثاني (يناير) من هذا العام بفرض مزيد من قيود التصدير الخاصة بها، وأعلنت أن المصنعين الصينيين سيحتاجون من الآن وصاعد إلى التقدم بطلب للحصول على تراخيص إذا كانوا يريدون تصدير رقائق الألواح الشمسية والبولي سيلكون اللازم لتصنيعها.
المهندس ك. إس. ديلتون المسؤول عن قسم العلاقات الدولية في شركة "إيفرز"، إحدى أكبر شركات التنقيب عن المعادن في المملكة المتحدة، يعلق لـ"الاقتصادية" قائلا: "الصراع كان شديد الوضوح في مؤتمر تعدين إندابا، أكبر مؤتمر للاستثمار في التعدين في إفريقيا، الذي عقد في شباط (فبراير) الماضي في كيب تاون في جنوب إفريقيا، وكانت هناك وفود من جميع اللاعبين الرئيسين في العالم بينهم السعودية، لكن أكبر وفد كان من الولايات المتحدة، حيث ضم مسؤولين من البيت الأبيض ووزارات الخارجية والتجارة والطاقة، ما يعكس حجم التعطش الأمريكي إلى نحو 50 معدنا مهما ضروريا لتقليل انبعاثات الكربون وإيجاد وظائف خضراء".
ويضيف "الصراع على المعادن في جزء منه صراع على إفريقيا التي تضم 30 في المائة من الموارد المعدنية في العالم".
من جهته، يقول لـ"الاقتصادية" البروفيسور آدم كارثون أستاذ التجارة الدولية في جامعة جلاسكو "المسؤولون في الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي وروسيا ينظرون إلى أسواق المعادن على أساس أنها سوق صراع، المحصلة فيها صفرية لا غالب فيها، وستلعب القارة السمراء الدور الرئيس. واشنطن ترى أن إفريقيا يمكن أن تساعد على حل مشكلة الصراع على المعادن من زاويتين، الأولى تتعلق بأن نقص المعادن يعني عدم قدرة المجتمع الدولي على تحقيق أهدافه بالنسبة لقضية المناخ، فصانعو تقنيات الطاقة النظيفة في حاجة إلى 40 ضعفا من الليثيوم، و25 ضعفا من الجرافيت ونحو 20 ضعفا من النيكل والكوبالت بحلول عام 2040، والطلب على المعادن أو العناصر الأرضية النادرة قد يكون أعلى سبع مرات بحلول نهاية العقد المقبل"
ويضيف "الجانب الثاني مبني على أن الصين لديها تأثير ضخم في سلاسل التوريد في مجال المعادن، إذ تقوم بتكرير نحو 70 في المائة من النيكل في العالم، و40 في المائة من النحاس، و60 في المائة من الليثيوم، و73 في المائة من الكوبالت، وبذلك فإن شركاتها تتنافس مع الشركات الغربية بقوة في مجال التعدين، وإذا أخذنا في الحسبان التقارب الراهن بين الصين وروسيا، فإن تعاونهما في مجال التعدين قد يؤدي إلى تغير المشهد الدولي في تلك الصناعة مرة وإلى الأبد، وهذا تحديدا ما يقلق الولايات المتحدة وحلفاءها".
وبالفعل، فإن الأرقام المتاحة حول تمتع بعض الدول الفقيرة بالجزء الأكبر من احتياطات المعادن الاستراتيجية يمكن أن يقلق واشنطن بقوة، فالكوبالت الذي يستخدم في صناعة البطاريات، تعد الكونغو المصدر الرئيس له، إذ تنتج 70 في المائة من الإنتاج العالمي، والكيانات الصينية تمتلك 15 من أصل 19 منجما للكوبالت في الكونغو.
لكن التنافس الحاد في سوق المعادن العالمية يدفع إلى طرح سؤال رئيس حول طبيعة المسار المستقبلي في هذه السوق الاستراتيجية.
يرى الخبراء أن طبيعة الاستراتيجيات المطروحة حتى الآن ترسخ فكرة الصراع، فالنهج الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة يقوم على أساس تشكيل جبهة متعددة الأطراف تضم حلفاء غربيين لتأمين الاحتياجات الغربية من المعادن، وفي هذا السياق أسست واشنطن ما أطلقت عليه "شراكة أمن المعادن" التي تضم في عضويتها أستراليا وكندا وفنلندا وفرنسا وألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية والسويد والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لكن خصوم الولايات المتحدة عدوا أن هذا التحالف الغربي يرمي إلى مواصلة البلدان المنضوية تحت "شراكة أمن المعادن" الهيمنة على أسواق المعادن في العالم، وعلى الرغم من أن الدول الأعضاء في تلك الشراكة سيدعمون شراكاتهم الخاصة، إلا أنه سيكون هناك تنسيق مشترك بينهم يتضمن ممارسة الضغط الدبلوماسي الجماعي إذا لزم الأمر على الدول الفقيرة المنتجة للمعادن أو قيامهم بتمويل مشترك للمشاريع عندما يتعلق الأمر بالمنافسين الآخرين مثل الصين أو روسيا.
وفي الواقع، فإن تلك الاستراتيجية ترتبط بدبلوماسية أمريكية ناشطة في القارة الإفريقية.
وفي هذا السياق، تعلق الدكتورة سكيلر آيان أستاذة الدراسات الإفريقية في المعهد الدولي للدراسات الإفريقية، قائلة: "استضاف الرئيس بايدن أكثر من 40 من القادة الأفارقة في واشنطن في ديسمبر الماضي، ويقوم كبار المسؤولين في الولايات المتحدة بزيارات متكررة للقارة، بالطبع هناك عديد من الاهتمامات الأمريكية في إفريقيا لكن المعادن تأتي في المقدمة، وقد وقعت الولايات المتحدة مذكرة تفاهم مع الكونغو وزامبيا في يناير الماضي لمساعدة أكبر مصدرين للنحاس في إفريقيا على القيام بما هو أكثر من بيع المعدن في حالته الأولية، وتعد بداية لاستراتيجية جديدة قائمة على مساعدة الأفارقة على بناء سلاسل التوريد لمعالجة المعادن الخام وتحويلها للاستخدام في الصناعات المتطورة".
لكن إلى أي مدى ستترجم طموحات واشنطن وحلفائها إلى مزيد من الاستثمارات في القارة السمراء؟
يصف الخبير الاستثماري كوبر دكلين الأمر بالقول "غالبا، لا تكون الأولويات الإفريقية أولويات أمريكية".
ويقول لـ"الاقتصادية": إن "نقاط القصور لدى الجانب الأمريكي، أن المشاريع الأمريكية تستغرق وقتا طويلا لتبدأ على عكس الصينيين. ثانيا الاستثمارات الأمريكية لديها إفراط شديد في الربط بين الاستثمار والحفاظ على البيئة، وهذا الجانب يأخذه الصينيون أيضا في الحسبان، ولكن ليس بذات الدرجة من الاهتمام الأمريكي".
يدفع هذا ببعض الخبراء إلى طرح استراتيجية بديلة من منطلق أن ترحيب قادة القارة الإفريقية بالاستثمارات الأمريكية في مجال المعادن لا يعني أنهم سيتخلون عن الصين أو روسيا.
بدوره، يؤكد لـ"الاقتصادية"، الدكتور إم. إن. موريس أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة ليدز، أن القرن الـ21 سيكون قرن الصراع على المعادن، "فعلينا أن نتذكر أن الزعيم البريطاني ونستون تشرشل هو من قام بتحويل البحرية الملكية البريطانية التي كانت تمثل العمود الفقري للقوة العسكرية البريطانية من الاعتماد على الفحم إلى النفط، ما سمح للسفن البريطانية بالسفر أسرع بشكل كبير، لكن هذا التحول الذي سارت على دربه البلدان الأوروبية والولايات المتحدة كان يعني أن القوة العسكرية الغربية باتت تعتمد في تلبية احتياجاتها من الطاقة على مصادر خارجية، لا على مصادرها الذاتية كما كانت الحال مع الفحم".
هذا المشهد يتكرر مرة أخرى من وجهة نظر الدكتور إم. إس. موريس مع المعادن التي ستعمل على تعزيز التحول في مجال الطاقة، وستحدث طفرة في الابتكار التكنولوجي، فهي ليست مدخلات صناعية مهمة فحسب، بل الأكثر خطورة أنها مورد استراتيجي وضروري لبناء وتجهيز ونشر الجيوش وتزويد الاقتصادات التي تدعمها بالطاقة، فالأمن القومي والاقتصادي بات يعتمد بشكل متزايد على التقنيات المتقدمة ذات الكثافة المعدنية العالية.
تلك الرؤية تحديدا هي ما تدفع إلى التساؤل، هل تؤدي الاحتياجات التي تربط التقدم بالحاجة إلى المعادن إلى العودة إلى أجواء الحرب الباردة؟
حول الإجابة عن هذا التساؤل تنقسم الآراء أيضا، فبينما يشير بعض الخبراء إلى أن الجغرافيا السياسية للمعادن المهمة ستكون أقل خطورة من تلك الموجودة حول النفط والغاز، يرى البعض الآخر أنه هناك عوامل ترسم صورة أكثر قتامة للصراع المقبل.
ولتفادي هذا الوضع الذي سينعكس حتما على الاقتصاد الدولي، تطرح كيالي لوقا أستاذة الجغرافيا السياسية في قسم الجغرافيا بجامعة أدنبرة رؤيتها في هذا الشأن، حيث تقول لـ"الاقتصادية": "إنه لمنع العودة إلى منطق المحصلة الصفرية التي سادت إبان الحرب الباردة في الصراع بين القطبين فيما يتعلق بالنفط والغاز، يجب توسيع سلاسل التوريد المعدنية ابتداء من المناجم إلى المعالجة النهائية وإعادة التدوير، وهنا حتما ولا مفر من ذلك ستتطلع البلدان النامية ومتوسطة الدخل الغنية بالمعادن إلى الولايات المتحدة والصين، وبدرجة أقل الاتحاد الأوروبي، وهنا لا يجب أن تبنى الاستراتيجية الأمريكية على فكرة إزاحة الصين من الدور الذي تقوم به حاليا باعتبارها مسبك العالم، بل ينبغي بدلا من ذلك تعزيز تنمية القدرات التعاونية بين الطرفين".
وتضيف "طبيعة المعادن وعلاقتها بالطاقة تجعل التعاون الأمريكي - الصيني مجديا للجميع، للمنتجين من البلدان النامية والفقيرة، وللدول الغنية المستهلكة للمعادن، فمصادر الطاقة المتجددة لا تستهلك المعادن باستمرار، فالمعادن مدخلات في البنية التحتية وتسهل إنشاء وتخزين طاقة الرياح أو الطاقة الشمسة أو الطاقة الحرارية للأرض أو الطاقة المائية أو لأنواع الطاقة المتجددة الأخرى، من ثم عدم الوصول إلى المعادن يقلص فرص توسيع السعة أو إصلاح البنية التحتية، لكنه لا يترجم إلى أزمة طاقة فورية، أما النفط والغاز، فإن أي خلل في أسواقهما يؤدي إلى اهتزاز عنيف في الاقتصاد الدولي".
وتؤكد أن المعادن ليست كالنفط أو الغاز، فما يستهلك من النفط أو الغاز لا يعود، أما عديد من المعادن المهمة مثل النحاس يمكن إعادة تدويرها دون أن تفقد خصائصها الوظيفية.
على أي حال، لا تزال أسواق المعادن بالطبع أضعف من أسواق النفط والغاز الطبيعي، حيث تجاوزت الصادرات العالمية من الوقود التقليدي تريليوني دولار عام 2020، بينما بلغ إجمالي صادرات الكوبالت عالميا، وهو واحد من أهم المعادن المستقبلية، أقل من خمسة مليارات دولار، وصادرات النيكل 30 مليار دولار، هذا يعني أن القوى المهيمنة على الاقتصاد الدولي أمامها فرصة لإعادة النظر في استراتيجيتها بشأن إنتاج واستهلاك المعادن.
توسيع سلاسل التوريد من خلال ضخ مزيد من الاستثمارات، خاصة أن توقعات الطلب العالمي تشير إلى زيادة تراوح ما بين ثلاثة إلى 42 ضعفا على بعض المعادن المهمة والضرورية لتحقيق الأهداف الدولية المتعلقة بالحد من الانبعاثات الغازية، وهذا يتطلب أن فهم التخلص من أجواء الحرب الباردة التي تهيمن على سوق المعادن يجب أن يكون الخطوة الأولى التي ستمكن المجتمع الدولي من صياغة استراتيجية عالمية توجد آفاقا أكثر رحابة لتعاون عالمي حقيقي يعود بالنفع على المنتجين والمستهلكين في آن واحد.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات