ثقافة وفنون

الصحافة في العصر الرقمي .. معركة البحث عن الذات مستمرة

الصحافة في العصر الرقمي .. معركة البحث عن الذات مستمرة

شركات التكنولوجيا الجديدة تعيد اختراع الإعلام بعيدا عن المؤسسات الصحافية.

الصحافة في العصر الرقمي .. معركة البحث عن الذات مستمرة

على الرغم من التحديات صورة الصحافة اليوم ليست سوداء وليست وردية.

كلما أثخنت الإنسانية في عوالم العصر الرقمي، ازداد الاشتباك والالتباس بين العالمين التقليدي والرقمي، لتتواتر بذلك أسئلة كبرى بشأن الانتقال من العالم الأول إلى الثاني، أو على الأقل البحث عن السبل الكفيلة للجمع بين الحسنيين، أي الحرص على تحصيل مزايا العالمين معا. هكذا شرع مختلف القطاعات في اختبار فرص نجاح عملية التحول أو فقط المزج بين القواعد الكلاسيكية ومتطلبات الثورة الرقمية.
قطاع الإعلام والصحافة، لم يكن بمنأى عن الموجة الممتدة، بعدما وجد محترفو مهنة المتاعب أنفسهم مطوقين على أكثر من صعيد، فاحتكار المعلومات الذي كان على مدار عقود من الزمن حكرا على الصحافي، سقط بشكل نهائي بفضل الثورة التكنولوجية، فبات صناع المحتوى والمؤثرون والمنابر الصحافية الرقمية حتى منصات التواصل الاجتماعي تزاحم الصحافي في القيام بأدواره. ما استدعى أحاديث تدعو الصحافة إلى "إعادة اختراع نفسها" حتى تواجه خطر الموت والاندثار.
مخاوف لا تعدو أن تكون مجرد مزايدة في نظر الكثيرين، فالصحافة بفضل العصر الرقمي ولجت عالم الأمجاد من أوسع أبوابه، نتيجة ما يتيحه العصر من مزايا وإمكانات، تضمن الانتشار على نطاق واسع، والتأثير في شرائح عريضة داخل المجتمع. فالرسالة تبقى واحدة أيا يكن حامل المحتوى الصحافي، مادامت وفية للقواعد والضوابط التي وضعها الآباء المؤسسون للعمل الصحافي، وتوارثتها أجيال إعلامية جيلا بعد جيل، على امتداد قرون من الزمن.
لا مراء في القول إن النقاش حول الصحافة في العصر الرقمي ذو شجون، فزاوية النظر إلى الموضوع تكشف جانبا من الحقيقة فقط، فضلا عن اكتناف كل منظور لجملة تفاصيل تثير أسئلة ومخاوف أكثر من تقديم إجابات مطمئنة. فسلطة النشر التي كانت في السابق حكرا على قبيلة الصحافيين، أضحت اليوم متاحة بين أيدي أصغر مراهق في أقصى الأرض، ما دفع أصواتا إلى المناداة بضرورة مراجعة وتحيين قواعد العمل الصحافي، حتى تواكب التطورات والمستجدات التي تشهدها الصحافة.
في زمن سطوة المنطق التجاري والبحث السريع عن الربح في الحقل الصحافي، باتت قيم مهنة المتاعب موضع منازعة بين أهل الحرفة، فمن قائل بوجوب الانحياز إلى القيم المثلى للمهنة من صدق ونزاهة وبحث عن الحقيقة. فالصحافي مزعج بطبعه، بذلك يكون دوره الأساس هو قول الحقيقة لا صناعة الوهم والانسياق وراء رغبات الجمهور؟ ورأي آخر مضاد، يرى ضرورة مجاراة رواة الأخبار لموجات الفورة الرقمية، لضمان البقاء داخل سوق التفاعل الرقمي، فهي الطريق الأقصر للوصول إلى الجمهور الذي يظل الغاية المثلى لكل مؤسسة صحافية.
صحيح أن الصحافة تعيش مع الثورة الرقمية أبهى عصورها، من ناحية الكم بعد تضخم أعداد المواقع والمنابر الإعلامية الرقمية على شبكة الإنترنت، لدرجة أن صحافيين دعوا إلى ضرورة التفكير في تنظيم النسل داخل جسم المقاولات الصحافية، وتفادي التناسل العشوائي حفاظا على أدبيات المهنة. ولا سيما أن قاعدة عمل هذه المنصات قائمة على مبدأ المثير والاستجابة في علاقتها بالجمهور، لذا نجدها تركز على الأخبار القصيرة، وعلى الموضوعات الشائعة "الترند"، لا يهم إن كانت ذات قيمة إخبارية للرأي العام، أم مجرد شعبوية تلهب حماسة الجماهير.
ما سبق يقود إلى الاستفهام عن الوظيفة الحقيقة للصحافة في العصر الرقمي، هل تقزم دورها إلى مجرد السعي إلى تلبية احتياجات الجمهور أيا كانت؟ وهل المهنية والأداء يرتبطان فقط بمدى انتشار الخبر؟ في المقابل، ما قيمة الخبر إن لم يصل إلى الجمهور مهما بلغ من أهمية؟ تبقى هذه التساؤلات ثانوية أمام سؤال إشكالي يتردد صداه في الأوساط الصحافية عن قيمة الخبر في العصر الرقمي؟
ويزداد الوضع غموضا والتباسا حين ندرك أن مؤشر متابعة الجمهور للأخبار، أي تقييم التفاعل مع الأخبار بناء على الأرقام ونسب المتابعة، يظل نسبيا إلى أقصى الحدود، اعتبارا للدور الذي أضحت تلعبه الخوارزميات في الكواليس عند تسويق الأخبار، فهي من تضع معايير القيمة الخبرية للأحداث عبر التحكم بتدفق ونوع المحتوى الذي يصل إلى الجمهور. بذلك يكون معيار التفاعل ضابطا غير دقيق لتحديد القيمة الخبرية لما ينشر، مادام هذا الأخير موضع تدخل وتوضيب من جانب عمالقة التكنولوجيا.
تكتنف السجال الدائر، منذ أعوام في العالم العربي، بشأن الصحافة الرقمية جملة من المغالطات التي تصد الحقائق عن المهتمين بالشأن الصحافي العربي، بشقه التقليدي والرقمي، أولها مقارنة المنابر الإعلامية بمنصات التواصل الاجتماعي لتباين الأهداف بين الوسيلتين، فغاية هذه الأخيرة هو الحفاظ على جذب انتباه المستخدم أطول فترة ممكنة من خلال المحتوى، عكس الأولى التي ترمي الإخبار والتعليم والتثقيف حول قضية أو مسألة معينة.
أما ثاني تلك المغالطات، فهي الطابع المهني والبراعة العالية التي تعد بها المواد الإخبارية المنتج من قبل صحافيين مهنيين لهم خبرة وتجربة، ما يعكس حضورا للبعد الرسالي في المضمون حيث تمتزج المعلومة بالتوعية والمعرفة حتى التوجيه من أجل صناعة الرأي العام، كل ذلك بأسلوب احترافي. عكس ما يتداول على مواقع التواصل الاجتماعي من مواد تمزج بين الترفيه والدعاية والشائعة حتى التضليل، دون أدبيات ولا أخلاقيات ولا قيود، فكل الأساليب مستباحة من أجل رفع أعداد المتابعين لتحصيل عوائد المشاهدات والكسب المادي السريع.
ما من شك أن شركات التكنولوجيا الجديدة تعيد اختراع الإعلام، بعيدا عن الصحافيين والكتاب والمؤسسات الصحافية في جميع أنحاء العالم، لكن صورة الصحافة على الرغم من ذلك ليست سوداء وليست وردية. فالمشهد الإعلامي في مرحلة انتقالية يبقى مفتوحا على جميع الاحتمالات، ما يحتم على رجال ونساء الصحافة رفع التحدي لضمان تحول سليم، وذلك باستثمار التطور الرقمي لتجويد العمل الصحافي خدمة لوظيفة الصحافة الأولى والأخيرة: إنها البحث عن الحقيقة. فهذه الدور وحده فقط من يمنح الصحافة لقب "السلطة الرابعة" الذي يجعلها فوق جميع السلطات.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون