السياسية

عيد العمال .. بأي حال عدت يا عيد

عيد العمال .. بأي حال عدت يا عيد

احتفى العمال في العالم، مطلع الشهر الجاري "فاتح مايو/ أيار"، بالعيد الأممي للطبقة العاملة في أجواء من الغموض والالتباس والخوف، بشأن حاضر ومستقبل العمل والعمال. فما يشهده العالم من طفرة في عالم الشغل والتوظيف، نتيجة التطورات التكنولوجية، جعل الاحتفالات باهتة هنا وساطعة هناك، بحسب درجة الوعي، بما يحمله التحول من مخاطر. ما شرع الباب على متوالية من الأسئلة حول مصير العمال والطبقة العاملة والنقابات في ظل التحولات العميقة التي تشهدها الرأسمالية المعاصرة في علاقتها بأسواق العمل.
لقد بات السؤال حول العمل في الحاضر مختلفا عن الماضي، ففكرة العمل التي رافقت الوجود الإنساني عبر التاريخ، اقترن فيها الأجر أو المقابل بالجهد المبذول في الإنتاج أو الخدمة، أضحت موضع مراجعة وتأمل. فلم يعد العمل مشروطا بالغاية التقليدية التي تبرره، أي تقديم خدمات أو منتجات سواء أكانت منتجات مادية أو فكرية إبداعية، إذ بإمكان العمل في الوقت الراهن ألا يكون منتجا، ويبقى مدرا للدخل، حتى قيل إن الإنسانية تدخل عصر رأس المال بدون عمل، لأن مجتمع العمل يختفي.
ينظر كثيرون إلى ما آل إليه مجتمع العمل اليوم باعتباره تطورا عاديا أو حتى طفرة طبيعية فرضتها تحولات الحياة المعاصرة، بيد أن الحقيقة غير ذلك تماما. فما استقر عليه الوضع اليوم في عالم الشغل، كان ثمرة قرون من النضال والتضحيات من الطبقة العمالية في مختلف بقاع العالم، سعيا وراء إقرار ظروف عمل أحسن. وما مناسبة عيد الشغل الذي يعد عطلة رسمية في 107 دول حول العالم، أي ما يعادل 2/3 سكان الأرض، سوى مثال على ذلك.
تعتقد الأغلبية أن جذور فكرة عيد العمال ذات أصول شيوعية، ويربطها آخرون بالأيديولوجية الاشتراكية استنادا إلى حدث اعتماد الأول من مايو في مؤتمر الاشتراكية الدولية في أمستردام عام 1904. كل ذلك غير صحيح، فبدايات الفكرة كانت في دول المعسكر الغربي، ونقصد هنا أستراليا التي ظهر فيها، عام 1856 أول المطالب بتحديد ساعات العمل بثماني ساعات يومية، سيرا على خطى النجار صامويل بارنيل، رفيقهم في نيوزيلندا الذي نال هذا المكسب عام 1840. قبل أن تعبر الفكرة المحيط الهادي نحو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ثم المملكة المتحدة وفرنسا أبرز معاقل الحركة العمالية في العالم.
بدأت الفكرة تجتاح الولايات الأمريكية في الربع الأخير من القرن الـ19، فتعالت الأصوات في ولاية شيكاغو ثم كاليفورنيا وإلينوي، حيث شهد عدد من المدن سلسلة إضرابات في الأول من أيار (مايو) 1886، قدرت بزهاء خمسة آلاف إضراب، شارك فيها ما يقارب 350 ألف عامل، يوحدهم شعار "لا للعمل أكثر من ثماني ساعات في اليوم".
تخللت الإضراب صدامات مع الشرطة في عدد من المدن، أشهرها قضية ساحة هايماركت، حيث قتل الشرطة أربعة عمال بالرصاص، ما أجج فتيل الاحتجاج بشكل سلمي في الموالي، قبل أن تتدخل قوات الأمن بعنف قصد إنهائه، فتواجه بقذف قنبلة من قبل مجهول في صفوفها، أودت بحياة ما لا يقل عن 12 شخصا ضمنهم سبعة من رجال الشرطة.
بذلك، تحول "الفاتح مايو/ أيار" في الأعوام التي تلت الحادثة إلى ذكرى "شهداء هايماركت"، خاصة أن صدى الحادثة تعدى الولايات المتحدة لينتشر في العالم، فقد خلدته الأممية الاشتراكية في باريس عام 1889، ونظمت مظاهرات دولية بعدها بعام إحياء لذكرى هايماركت، قبل أن يكتسب الحدث طابع الاعتراف الرسمي، ويصبح عيدا عالميا للعمال في المؤتمر الثاني للأممية الاشتراكية.
تاريخ أسود برائحة الشيوعية، دفع بالولايات المتحدة الأمريكية إلى التنصل من أي احتفال في هذا اليوم، واختارت بدلا منه أول إثنين من أيلول (سبتمبر) عيدا للعمال، وهو ما عليه الحال في جارتها الشمالية كندا. أما في نيوزيلندا منبع حقوق الطبقة الشغيلة، فتم الإعلان عن عيد في 28 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1890، قبل تحويله إلى آخر يوم إثنين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) كل عام.
يحرص الأمريكيون، وهم يحتفون، على تخفيف الطابع النضالي والمأساوي للمناسبة، فعطلة نهاية أسبوع عيد العمال في جل الولايات الأمريكية موعد لاستئناف الموسم الدراسي. فضلا عن كونه تاريخ انطلاق عدد من البطولات الرياضية، فهو موعد أول مباريات الاتحاد الوطني لألعاب القوى، وكذا بداية دوري كرة القدم الأمريكية... وهلم جرا من الأنشطة الترفيهية التي يراد بها طمس التاريخ الأسود لهذه المناسبة التي باتت قرينة الأيديولوجية اليسارية.
توشك أمجاد وبطولات العمال، لأكثر من قرنين، أن تصبح قصصا تحكى على الألسن للأجيال القادمة، ممن فتحوا أعينهم على أشكال حديثة للعمل، غير المنظور التقليدي الذي تجاوز اعتباره نشاطا إنسانيا يوميا يشكل أداة لتحقيق أهداف معينة، نحو التعاطي معه كأساس لتشكيل هوية وبنى المجتمع. وكان ذلك أساس الفلسفة الماركسية، نسبة إلى كارس ماركس، الذي عد العمل والقوى العاملة عماد بناء المجتمعات عبر التاريخ.
شهدت قوة العمل تراجعا، على الصعيد العالمي، منذ سبعينيات القرن الماضي، ما انعكس على أدوار حركة النقابات، بسبب سطوة التكنوقراط من ناحية، وتطور قطاع الخدمات والتكنولوجيا من ناحية أخرى. ما جعل القوى العاملة تدرك حجم التحول، فقد تخلى العمل على الصعيد الاجتماعي عن الدور الكلاسيكي ممثلا في "عملية الإنتاج" لمصلحة مسألة "إعادة توزيع الثروة" بشكل لا محدود، ودون احترام لأي قاعدة من القواعد المألوفة في سوق الشغل التقليدي.
هنا وجبت الإشارة إلى مساهمة الثورة الرقمية بنصيب لا يستهان به في هذا التحول، فكثير من الأنشطة "الأعمال" التي تزاول على هذه المنصات لا تقبل الخضوع للضوابط المعروفة في سوق الشغل، بل على النقيض من ذلك تؤسس لتصور جديد في فلسفة العمل، باختبار تقنية العمل عن بعد زمن كورونا، ثم الإبقاء عليها أو مزاوجتها بالدوام الفعلي "أسلوب العمل الهجين" بعد زوال الحائجة.
ويبقى ما يحدث عبر منصات التواصل الاجتماعي بداية تجسيد فكرة اختفاء مجتمع العمل، بظهور مجتمع جديد يكون بلا عمل، غير استفادته من مزايا ملكية مجموعة من البشر للمعلومات وتحليل البيانات، فهذه الأخيرة أضحت عملة العصر الحديث بلا منازع، وخير دليل على ذلك موقع عمالقة شركات التكنولوجيا في الاقتصاد العالمي.
يبدو أن التطورات المتلاحقة في عالم الشغل تتجه نحو إجبار كارل ماركس وأنصاره على مراجعة ما ذكره في كتاب "رأس المال" (1867) حين قال "إن الإنتاج الرأسمالي يتسبب، من خلال تمديد يوم العمل، لا في تدهور قوة العمل البشري، عن طريق سلبه الظروف المعنوية والمادية الطبيعية للنمو والنشاط فحسب، بل يتسبب في استنفاد وموت هذه القوة العاملة نفسها".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من السياسية