بروز دور النشر الخاصة .. والمثقفون يراوحون مكانهم تحت عباءة السلطة
ما بين مشهد محرقة قصر ثقافة بني سويف التي أودت بحياة 58 من خيرة شباب المسرحيين، بينهم ممثلون وكتاب ونقاد، وبين تذكر المثقفين المصريين أن لهم دوراً سياسياً بلوروه في جماعة "أدباء وفنانون من أجل التغيير" تكمن مفارقات المشهد الثقافي المصري خلال هذا العام، ففي الأولى فشل المثقفون في إقصاء وزير الثقافة من منصبه الذي يتولاه منذ نحو 20 عاماً، بل استطاع الوزير بمسرحية استقالة هزلية – تمت بإيعاز من بعض المثقفين أنفسهم - أن يمثل دور الضحية، وليتكرر من ثم مشهد الاختراق المخزي لجماعة المثقفين، من قبل مؤسسة السلطة، وبصورة أكثر هزلية، حيث انبرى نفر منهم وأصدروا بياناً يؤيد الوزير، وينفي مسؤوليته المباشرة عن المحرقة، ويطالب في الوقت نفسه ببقائه في منصبه، باعتباره –على حد قول أحدهم- "أهم وزير ثقافة في تاريخ مصر" وبالفعل تم رفض الاستقالة، وبقي الوزير في منصبه، وبقي المثقفون مجرد نخبة عشوائية، وعجينة هشة يسهل تشكيلها وفق المصالح والرغبات الشخصية الضيقة الفجة.
وفي الثانية حاول المثقفون كسر عزلتهم، والانضواء في الحراك السياسي وحالة "الزعزعة" التي شهدها المجتمع في أعقاب التعديل الدستوري الذي سمح بانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع الحر المباشر بين أكثر من مرشح.. وعلى غرار التكتلات والتشكيلات السياسية التي أفرزها هذا المناخ أعلن المثقفون عن ميلاد جماعتهم، ومثل معظم هذه التكتلات انخرطوا في تظاهرات وبيانات الشجب والإدانة، التي ظلت تراوح كعادتها، في منطقة رد الفعل لممارسات النظام، من دون أن تنتقل خطوة واحدة إلى منطقة المبادأة وامتلاك الفعل نفسه، بمحض إرادتها ومقوماتها الذاتية الخاصة.
وعلى ذلك لم تطرح هذه الجماعة مشروعاً أو برنامجاً لثقافة بديلة، فلم نسمع مثلا عن مؤتمر عام دعت إليه للمثقفين المصريين، يناقش قضايا الثقافة والإبداع في ظل هذا الحراك، ويعيد القراءة وطرح الأسئلة من جديد.. والمدهش أن هذه الجماعة لم يؤرقها أن تخلو برامج المرشحين العشرة في الانتخابات الرئاسية التي طنطنوا بها في نجوع وأقاليم مصر من كلمة واحدة عن الثقافة، وكأنه لا ثقافة في مصر ولا كتاب ومثقفون.
وفي الانتخابات البرلمانية اكتفى المثقفون أيضاً وجماعتهم الوليدة بمراقبة المشهد من منظور دائرة رد الفعل وأحجموا عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع وظلوا في منتدياتهم ومقاهيهم يثرثرون عن مخاوفهم من صعود كتلة الإخوان المسلمين في البرلمان، وعن المستقبل المظلم الذي ينتظر الوطن في السنوات القادمة من جراء ذلك.. ولو التفت المثقفون إلى أنفسهم لاكتشفوا أنهم كتلة تصويتية لا يستهان بها، بقليل من التنظيم تستطيع أن تشكل ورقة ضغط قوية على معادلات النظام وتوازناته السياسية النمطية.. لكن شيئاً من هذا لم يحدث، وأصبح المثقفون مجرد راقصين في الفراغ بلا حلبة، أو قضية حقيقية، تؤكد وجودهم وفعاليتهم في المجتمع.
ينفلت من غربال هذا المشهد بعض الأشياء الإيجابية التي شهدها الواقع الثقافي المصري خلال هذا العام، لعل أبرزها – في رأيي- ظهور عدد من دور النشر الخاصة، مثل: الدار – سنابل – نفرو، وغيرها. وبرغم بعض المعوقات المالية التي تواجه هذه الدور، إلا أنها استطاعت أن تقدم مجموعة من الإصدارات المتميزة على صعيد الإبداع في أفقه المحلي والعالمي.. وأتصور أن هذه الدور ومعظم القائمين عليها مبدعون تستطيع أن تلعب دوراً مهماً في حل مشاكل الكتاب المصري الطباعية والتسويقية، وإعادة الاعتبار إلى الكتاب باعتبارهم مبدعين وليسوا تجاراً، وفي الوقت نفسه كسر هيمنة بعض دور النشر الخاصة وشروطها التعسفية، التي أصبح لا يقدر عليها معظم الكتاب، وبخاصة الأدباء الشباب، الذين تقلصت أمامهم مساحة النشر في المؤسسات الحكومية في ظل أفق تقليدي ضيق، وسيطرة اعتبارات الشللية والمجاملات الخاصة على حركة النشر بها.
ولم تخرج الأنشطة الثقافية التي انعقدت في هذا العام عن إطار النمطية التي أصبحت تكرس لها في معظم فعالياتها بداية من أنشطة المجلس الأعلى للثقافة التي تولي اهتماماً أكبر للاحتفاء بالأموات على حساب ما يفرزه الواقع الثقافي الراهن من قضايا وإشكاليات في أمس الحاجة إلى القراءة الصحيحة والحوار الجاد.. وتحول مهرجان المسرح التجريبي، والقاهرة السينمائي إلى مؤتمرين للبهرجة والاستعراض، وكأنه لا مشاكل في السينما أو المسرح تستحق مجرد الالتفات إليها، بينما المهرجان الوحيد الذي يحافظ على مستواه وجديته هو مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة يقبع في الهامش، ولا يلقى الدعم اللازم من وزارة الثقافة برغم نجاحاته من دورة إلى أخرى.
وربما من حسنات هذا العام صدور مجلة "ضاد" الفصلية عن اتحاد الكتاب المصري لتشكل نوعاً من التعويض عن حالة الموات التي يشهدها الاتحاد منذ فترة طويلة، وليجمل بها من ثم وجه المهرجان الهزيل الذي عقده بمناسبة مرور 30 عاماً على إنشائه. ولو تحولت هذه المجلة إلى مجلة شهرية وبمستواها الجيد الذي ظهر به العدد الأول، يمكن أن تسد ثغرة افتقاد الحياة الثقافية المصرية مجلة ثقافية ثقيلة تشد هموم الكتاب والمثقفين نحو أفق أفضل.
وبرغم تعدد الإصدارات الأدبية من رواية وقصة وكتب نقدية وفكرية وغيرها إلا أنه يندر أن تجد في هذا الكم شيئاً ممتعاً يثري الروح والعقل، ويضعهما على أرضية مغايرة في نسق أدبي وإنساني راق.
ولم يخل هذا العام من دمعة حارة على أدباء رحلوا بعدما أثروا الحياة الأدبية بأدبهم المتميز، وعطائهم الفكري على شتى المستويات، منهم الكاتب المصري صاحب الأسلوب الساخر والذكاء الأدبي محمد مستجاب، والناقد الروائي المترجم بدر الديب، والكاتب المسرحي ألفريد فرج.
ويبقى نجيب محفوظ وبلوغه عامه الرابع والتسعين وحيويته على النقاش والحوار وكتابة أحلامه "أحلام فترة النقاهة"، إحدى العلامات الفارقة في غبار هذا المشهد.