تقارير و تحليلات

الحمائية منحنى جديد يعمق أزمة العالم الغذائية .. حرية التجارة في مأزق

الحمائية منحنى جديد يعمق أزمة العالم الغذائية .. حرية التجارة في مأزق

الحمائية منحنى جديد يعمق أزمة العالم الغذائية .. حرية التجارة في مأزق

الحمائية منحنى جديد يعمق أزمة العالم الغذائية .. حرية التجارة في مأزق

في اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في نيسان (أبريل) الماضي، لبحث الموقف الهندي من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتعزيز مساعي واشنطن في إقناع نيودلهي بجدوى النأي بالنفس عن روسيا، والاصطفاف مع المعسكر الغربي في تلك المواجهة، تطرق الطرفان إلى عديد من الموضوعات، من أهمها الأزمة العالمية للغذاء التي تلوح في الأفق.
وخلال الاتصال أبلغ رئيس الوزراء الهندي الرئيس الأمريكي بأن "لدى الهند ما يكفي من الغذاء لسكانها البالغ عددهم نحو 1.4 مليار نسمة، وهي مستعدة لتزويد العالم بدءا من الغد باحتياجاته الغذائية".
كانت لهذا التعهد أصداء إيجابية على المستوى الدولي، خاصة أنه بدا منطقيا لكثيرين، فالهند ثاني أكبر منتج للقمح والأرز في العالم، وتاسع أكبر مصدر للقمح دوليا، ولديها مخزون من السلعتين يقدر بـ74 مليون طن، وتحتفظ بـ21 مليون طن منها للاحتياجات الاستراتيجية.
تصريحات الزعيم الهندي والإمكانات الزراعية الضخمة لبلاده أوجدت شعورا دوليا بالارتياح، بعد أسابيع من تصاعد القلق العالمي نتيجة انقطاع إمدادات القمح القادمة من أوكرانيا بسبب الحرب، وعدم إمكانية تعويل المجتمع الدولي كثيرا على أوكرانيا وروسيا لتوفير احتياجاته الغذائية، ما يجعل الهند بديلا منطقيا خاصة أن لديها مخزونا كافيا من القمح، كما أن صادراتها من القمح خلال العامين الماضيين بلغت سبعة ملايين طن، وسط تقديرات لأكاديميين هنود بأن بلادهم لديها القدرة على تصدير 22 مليون طن من الأرز و16 مليون طن من القمح هذا العام.
لكن مناخ التفاؤل الذي أوجدته تصريحات القيادة الهندية سريعا ما ذهب أدراج الرياح، فقد حظرت الهند تصدير القمح للخارج بعد موجة حارة ضربت المحصول، ما رفع الأسعار المحلية إلى أرقام قياسية، وعلى الرغم من إعلان الحكومة الهندية أنها ستظل تسمح بالصادرات المدعومة بخطابات اعتماد صدرت بالفعل، وكذلك للدول التي تطلب إمدادات تلبية لاحتياجات أمنها الغذائي، فإن البعض وجد أن تعهدات الهند الأولى بالاستعداد لإمداد سكان الكوكب باحتياجاته الغذائية، كان فيها كثير من الحماس المفرط ولم تتسم تصريحات قيادتها بالتؤدة المطلوبة من دولة بحجم الهند وثقلها الدولي.
بل إن قرارات نيودلهي الأخيرة بوقف التصدير زادت حدة المخاوف الدولية، وأضافت أبعادا ومنحنيات جديدة تعمق من التوقعات السلبية المحيطة بالأزمة الغذائية العالمية، ففي التطبيق العملي لم ترجع الهند عن استعدادها لإطعام العالم فحسب، بل فجرت قضية جديدة بإمكانية أن تلجأ الدول إلى مزيد من سياسات الحمائية الغذائية، ومنع تصدير الغذاء إلى الخارج، ما يزيد الطين بلة ويعمق المأساة الغذائية ويكشف أكثر أوجهها قبحا وهو زيادة عدد الجوعى في العالم.
في الحقيقة لم تكن الهند الدولة الأولى التي تلجأ إلى سياسات الحمائية الغذائية، إذ سبقتها إندونيسيا التي اتخذت قرارا بعدم تصدير زيت النخيل، وهو مادة أساسية للطهي في عديد من البلدان، وقد أدت الحاجة إليه نتيجة تراجع المعروض العالمي من أنواع أخرى من الزيوت وفي مقدمتها زيت دوار الشمس، حيث تعد أوكرانيا منتجا أساسيا، إلى ارتفاع الأسعار المحلية في إندونيسيا، ولم تجد جاكرتا حلا آخر غير وقف التصدير لخفض الأسعار محليا.
وسار عديد من الدول الأخرى على هذا المنوال، ووفقا لمعهد أبحاث سياسة الغذاء الدولي في الولايات لمتحدة فإن 23 دولة حول العالم قد تبنت سياسة الحمائية الغذائية في أعقاب الحرب الروسية - الأوكرانية، بينما أشارت وكالة بلومبيرج الاقتصادية إلى أن الدول التي فرضت قيودا على الصادرات الغذائية تغطي 17 في المائة من السعرات الحرارية المتداولة عالميا، وأن هذه القيود تخاطر بإحداث تأثير تسلسلي ورفع الأسعار على الجميع، حيث كانت إجراءات مماثلة قد اتخذت خلال أزمة الغذاء العالمية 2008 - 2011 وكانت مسؤولة عن ارتفاع أسعار المواد الغذائية حينها 13 في المائة.
وهنا قال لـ"الاقتصادية" دانيال دينيس الخبير الاقتصادي، إن "سياسة الحمائية الغذائية ستكون كارثة عالمية، لأنها تعني ارتفاع أسعار المواد الغذائية على الأغنياء، بينما للفقراء فهي تعني الموت جوعا، وأي استقرار ستحصل عليه دولة نتيجة فرض قوانين تحول دون تصدير المواد الغذائية إلى الخارج، يعني حالة من عدم الاستقرار والاضطرابات الاجتماعية في الدول المستوردة".
واستدرك قائلا "النتيجة الأولى للحمائية الغذائية نقص المعروض في السوق العالمية، ومن ثم ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وإذا كان لدى الدول الثرية موارد مالية لدعم عملية الشراء من الأسواق الخارجية، فإن الأمر لا يبدو سهلا بالنسبة إلى الدول الفقيرة التي عليها تخصيص مزيد من قدراتها المالية المحدودة لدعم الغذاء لتفادي الاضطرابات الاجتماعية ممكنة الحدوث نتيجة نقص الطعام وارتفاع الأسعار".
وأضاف "كما سيكون على حكومات الاقتصادات ذات الدخل المنخفض والمتوسط توجيه أجزاء أكبر ومتزايدة من الموارد المالية لتمويل المنتجات الغذائية، ويعني هذا ببساطة تراجع الاستثمار أو المشاريع الرئيسة ومن ثم انخفاض معدلات النمو، والأكثر خطورة زيادة الاستدانة المالية".
من جانبه، يتفق الدكتور ال.دي كريس أستاذ التجارة الدولية في جامعة لندن مع التأثيرات السلبية لسياسة الحمائية الغذائية في توازن سوق الغذاء العالمية، لكنه ينظر إلى القضية من أفق أوسع يتعلق بمستقبل التجارة العالمية، ملقيا اللوم على البلدان المتقدمة بشكل أو آخر في تفشي سياسة الحمائية الغذائية لكونها من وجهة نظره لم تقدم للعالم نموذجا يحتذى في أوقات الأزمات وتحديدا خلال جائحة كورونا.
وقال كريس لـ"الاقتصادية" إنه "عندما ضربت جائحة كورونا العالم، ساد النهج الفردي في التعامل مع الأزمة، وبعيدا عن الكلمات والخطب الرنانة فإن البلدان الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية لم تقدم نموذجا يحتذى لأهمية التعاون الدولي لمواجهة الوباء، وسعت كل دولة حينها إلى تبنى سياسات حمائية حالت دون تصدير المواد والأجهزة الطبية للبلدان الأخرى".
وأضاف كريس أنه "حتى عند التوصل إلى لقاح مضاد للفيروس - حتى اليوم - لا تقوم البلدان المتقدمة بتصدير الكميات المطلوبة من اللقاح للبلدان الفقيرة، الآن جاء الدور على الاقتصادات الناشئة مثل الهند وإندونيسيا والأرجنتين التي تستشعر أن هناك أزمة غذائية مقبلة، ومن ثم يتبنون سياسات حمائية في مجال الغذاء تماما كما فعلت البلدان المتقدمة خلال جائحة كورونا".
وأشار إلى أن خطورة هذا النهج يتمثل في ضرب مفهوم حرية التجارة في مقتل، ويجعله مفهوما موسميا ووقتيا يطبق في لحظات الرخاء، ويبتعد عنه في لحظات الضيق والشدة، حيث تكون الحاجة ماسة إليه أكثر من أي وقت مضى.
ومن وجهة نظر كريس، فإن هذه الحمائية الغذائية ستؤدي إلى مزيد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بحيث يتجه التضخم الغذائي الذي ابتلي به المستهلكون الآن إلى أزمة شاملة، ومن المحتمل أن تتجاوز الأضرار ما نجم عن وباء كورونا من مشكلات، بحيث يتم دفع الملايين إلى الجوع نتيجة الإضرار بالتوازن الغذائي العالمي على الأمد الطويل.
وفي الواقع فإن أنظار الخبراء تتجه الآن إلى فرنسا، حيث يهدد الجفاف هذا العام قدرتها الإنتاجية، وإذا تبنت فرنسا المسار الهندي في الحمائية الغذائية فإن الأسعار ستقفز إلى مستويات غير مسبوقة تاريخيا.
من ناحيتها، أوضحت لـ"الاقتصادية" إيمالي سوري الاستشارية السابقة في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو"، أنه "إذا انخفض إنتاج فرنسا أكبر منتج أوروبي من القمح، فإن الاحتمال الأكبر أن يواجه العالم وضعا غذائيا صعبا للغاية، وستزداد معه معدلات الحمائية الغذائية، وبدرجة لا تقل أهمية ستزداد القيود الوطنية المفروضة على توزيع الحصص الغذائية على المواطنين، وستقنن وتحدد كميات التوزيع.
وأشارت إلى أن ذلك يأتي وسط توقعات بانخفاض الإنتاج في الولايات المتحدة، مبينة أنه على الرغم من أن أمريكا ليست مصدرا كبيرا للقمح، لأن شحنه إلى الخارج مكلف للغاية، لكنها مع هذا تظل الملاذ الأخير في السوق الدولية.
وتضيف أن المشكلة ستكون أكثر حدة في الاقتصادات الناشئة، والعملات الوطنية لتلك الاقتصادات ستتعرض لضغوط ضخمة ستؤدي إلى انخفاض قيمتها، لأن التكاليف المرتفعة لفاتورة المواد الغذائية ستلقي بثقلها على العملة الوطنية، خاصة أن الغذاء يمثل الحصة الأكبر من سلال أسعار المستهلك في الاقتصادات الناشئة.
وتستدرك قائلة "الحبوب هي المواد الغذائية الأساسية التي تحافظ على تغذية العالم، فالقمح والذرة والأرز تمثل أكثر من 40 في المائة من إجمالي السعرات الحرارية المستهلكة، والأمر لا يتوقف عند سياسات الحمائية الغذائية، فمخزونات الحبوب مهيأة للانخفاض للعام الخامس على التوالي، إذ أدى مزيج من ارتفاع تكاليف الشحن وتضخم فواتير الطاقة والتغير المناخي إلى صعوبة في إنتاج الغذاء".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات