Author

التكنولوجيا الجديدة .. عراقيل ومكاسب

|

تتطور التكنولوجيات الرقمية بسرعة تفوق أي ابتكار في تاريخ العالم، حيث وصلت إلى نحو 50 في المائة من سكان العالم أو أكثر فيما لا يتجاوز عقدين من الزمان وأحدثت تحولا في الحياة الاقتصادية والتجارية والمجتمعات. ومن خلال تعزيز الاتصال الإلكتروني والشمول المالي وإمكانات الوصول إلى الخدمات التجارية والعامة، يمكن أن تمثل التكنولوجيا في عالم اليوم ركنا أساسيا في الحياة للناس.
ومن هذه الخلفية يعيش العالم اليوم عصر الثورة الرقمية بكل تفاصيلها، ونشهد نماذج عمل جديدة كل يوم تقريبا، خدمات رقمية أفضل، وفرص عمل مختلفة عن الماضي‏‏، ووفقا لتقرير صادر من البنك الدولي بلغت قيمة الاقتصاد الرقمي العالمي ما يزيد على 11.5 تريليون دولار، أو 15.5 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، ومن المتوقع أن يصل هذا الرقم إلى 25 في المائة خلال أقل من عقد من الزمان. وكان لانتشار فيروس كورونا أثر واضح في تسريع وتيرة الاقتصاد الرقمي، مع فرض التباعد الاجتماعي أصبح كثير من الناس يفضل إنجاز أعماله من خلال الاتصال عن بعد، ونجاح هذا التحول أصبح مرتبطا أكثر بقوة قطاع الاتصالات في كل دولة، فهذا القطاع هو العمود الفقري لوجود ونمو الاقتصاد الرقمي جنبا إلى جنب مع قوة وصلابة النظام المالي.
وأثبتت الظروف الاقتصادية التي واكبت انتشار فيروس كورونا، والتحولات التي أصبحت واقعا اجتماعيا واقتصاديا بعدها أن هناك حاجة ماسة إلى تطوير جوهري في أساليب وطرق تقديم المؤسسات المالية لخدماتها المصرفية، ومن ذلك تعديل كبير واسع النطاق في نموذج الأعمال القائم على المكاتب الأمامية. ليس هذا فحسب، ما يفرض على المؤسسات المصرفية إحداث تعديلات جوهرية في نماذج الأعمال، بل إن ما يعيشه الاقتصاد العالمي من استمرار انخفاض سعر الفائدة، وتراجع واضح في رسوم الخدمات المصرفية نظرا إلى حجم المنافسة، كما أن حجم البيانات المالية وتتبع كل عملية يجعلان من بقاء النماذج الحالية في العمل أمرا يشبه استخدام الماكينة البخارية في زمن انتشار ماكينة الاحتراق الداخلي.
كما أثبتت التجارب الاقتصادية أن الوقوف بعناد أمام التغيرات في الطلب وعدم مواكبة التحولات التكنولوجية يعني الطريق نحو الإفلاس، وفي أوقات معينة من زمن التحولات في نماذج الأعمال البقاء دون حراك يعني التهور بكل ما في ذلك من معني، ولعل كثيرين يتذكرون كيف خرجت شركات في عالم التقنية الحديثة كالجوالات وكاميرات التصوير من الأسواق تماما عندما بقيت مكتوفة اليدين أمام تحولات عميقة في الطلب، وفي نماذج العمل، ولن تكون المصرفية وأعمال البنوك بمعزل عن مثل هذا التهديد مهما كان حجم هذه المؤسسات المالية ضخما، بل إن مثل هذا الحجم هو الذي أصبح اليوم أكبر مهددات البقاء، وذلك في وقت تتسارع فيه الشركات الكبرى في التخلص من أعباء الحجم الضخم وبيع قطاعات من أعمالها، وسبق أن أشارت "الاقتصادية" إلى ذلك في تقارير سابقة.
ظل عالم المصرفية اليوم يتمتع بقدرات رقمية هائلة تمنح العملاء أنفسهم صلاحيات واسعة في تبادل المعلومات والأموال دون تدخل بشري مباشر، وتعد تقنيات البلوكتشين blockchain واقعا يفرضه الطلب والأسواق، وتتوسع بفعل هذا الطلب أعمال أسواق العملات الرقمية والعملات المشفرة، التي من المتوقع أن تهيمن على الأعمال المصرفية قريبا، لذا تحتاج المؤسسات المصرفية إلى تطوير جوهري في بنيتها الرقمية لاستيعاب البيانات الضخمة، التي تتطلبها هذه العملات والعمليات، وهي تتطلب أجهزة خادمة ذات قدرة عالية لتنفيذ التشغيل الذاتي واستخدام الذكاء الاصطناعي، وهذا يعني أن البنوك ذات الحجم الضخم من فروع ومكاتب أمامية لن تكون فعالة لإرضاء العملاء، وحتما ستواجه مصير الشركات الصناعية والتقنية الكبرى التي خرجت من الأسواق تماما بعدما فشلت في استيعاب التحولات الجارية.
ورصدت "الاقتصادية" في تقرير خاص بهذه المسألة استمرار نمو إنفاق البنوك على التكنولوجيا الجديدة، دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة مقابلة في الأرباح، بل إنها قد تتحول إلى أموال مهدرة إذا لم يحدث تغيير جذري في طريقة استخدام البنوك للتكنولوجيا. وهذا ما نعنيه هنا بمسألة استيعاب التحولات الجارية، فالبقاء على نماذج الأعمال المكلفة في وقت تتقلص فيه تكلفة الخدمات بنحو جوهري نظرا لتوسع استخدامات التكنولوجيا يجعل أي محاولة للدمج بين النماذج القديمة والتطورات التكنولوجية مغامرة غير محسوبة النتائج.
وفي هذا الجانب يتبين بوضوح أن الممارسات القديمة تعرقل تطور التكنولوجيا الجديدة المفيدة، وهذه الممارسات مجرد تكرار لخطأ شركات الاتصالات العملاقة في الجيل السابق، عندما أنفقت الأخيرة مبالغ ضخمة على تأسيس بنية تحتية، ثم جاء قادمون جدد إلى السوق ليجنوا هم المكاسب وتتكبد تلك الشركات خسائر كبيرة. وهنا عند مناقشة هذه النقطة بالذات يتم وضع اللوم على المؤسسات المنظمة للعمل المصرفي التي تصر على القواعد التنظيمية القديمة في القطاع، وتجعل عملية تطوير وتطبيق الاستراتيجية أمرا صعبا، لدرجة تصل حتى آليات استقطاب المواهب والمهارات في مجال التكنولوجيا، ولا يقف الأمر عند هذا المستوى من التحذير، بل يتعدى ذلك إلى خطورة التراخي في التطوير أمام زحف شركات التكنولوجيا العملاقة مثل: فيسبوك وتويتر وأبل، لهذا القطاع الحساس جدا، وحذر عضو في مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي من أن دخول هذه الشركات يعد خطرا يهدد الخصوصية والاستقرار المالي، حتى السيادة النقدية.

إنشرها