تقارير و تحليلات

تشكيل مزاج مهني جديد في أوروبا .. المعادلة تتغير مع تحولات الجائحة الدراماتيكية

تشكيل مزاج مهني جديد في أوروبا .. المعادلة تتغير مع تحولات الجائحة الدراماتيكية

تشكيل مزاج مهني جديد في أوروبا .. المعادلة تتغير مع تحولات الجائحة الدراماتيكية

بمجرد عودة الانتعاش الاقتصادي قد يكون لدى أوروبا أزمة توظيف بسبب نقص العمالة الماهرة.

إذا كان علينا أن نصف الوضع الدولي الراهن، فبالإمكان اختصاره في أزمتين أحدهما "صحية" والأخرى "اقتصادية"، ولا شك أن تأثير الأزمتين امتد لجوانب متعددة طالت مختلف المكونات المجتمعية والاقتصادية لكثير من الدول.
ومع توقع بأن تترك الأزمتان بصمات ستدوم طويلا على جميع التطورات المقبلة في مختلف بلدان العالم القارة الأوروبية لم تستثن من تلك التطورات، بل إن الأزمة الصحية والاقتصادية ربما كانتا أكثر حدة فيها، مقارنة بغيرها من قارات العالم، فأطلقتا شرارة ربما تعيد تشكيل كثير من مناحي الحياة في القارة، وفي مقدمتها سوق العمل.
المؤكد حاليا أن سوق العمل الإقليمية في أوروبا ستعزز توجهاتها المستقبلية نحو الأتمتة والاعتماد على الذكاء الصناعي، كما أن المهارات المطلوبة في سوق العمل ستشهد تحولات دراماتيكية، تلك التحولات قد تكون في حاجة إلى أعوام، وربما عقود لتكتمل، لكن حاليا، فإن الأزمة الصحية والاقتصادية بدأت في تشكيل مزاج مهني جديد في القارة، بحيث تتجه المعادلة المقبلة في سوق العمل إلى مزيد من تبني التكنولوجيا على حساب قوى العمل التقليدية في قارة بحجم القارة الأوروبية تضم عددا من الدول، التي يتباين فيها التاريخ الاقتصادي ومعدلات النمو والقدرة الإنتاجية والاستثمارية، فإن سوق العمل وإن اتسمت بقواسم مشتركة، فإنها ستضم حتما خليطا متنوعا من أسواق العمالة المتداخلة بحكم التكامل الاقتصادي الملحوظ في القارة.
في الوقت ذاته، فإن تلك الأسواق ذات الطابع الإقليمي النسبي تتأثر بكثير من العوامل، التي تعكس تطورا مختلفا للمفاهيم التنظيمية ودرجات متباينة من ثقافة العمل والاستقرار والنمو الاقتصادي ونضج الأسواق.
أغلب الدراسات المتعلقة بسوق العمل الأوروبية تشير إلى أن أوروبا خليط متنوع للغاية من أسواق العمل المحلية، وأن أسواق العمل بها تتسم بتركيز جغرافي، إذ يوجد نحو 48 مدينة في أوروبا تعد ديناميكية بالمفهوم الاقتصادي على غرار باريس وميونخ وأمستردام ومدريد، تلك المدن الـ48 هي موطن 20 في المائة من سكان أوروبا، ولكن ديناميكياتها الاقتصادية تسمح لها بتوليد 48 في المائة من الناتج المخلي الإجمالي في القارة، أما في مجال التوظيف فإنها تستوعب 35 في المائة من نمو الوظائف، و40 في المائة من نمو السكان، في المقابل هناك 438 مدينة أوروبية معظمها في شرق وجنوب أوروبا تقلص فيها سوق العمل 30 في المائة، نتيجة الشيخوخة، والمستوى التعليمي المنخفض.
من جانبه، يقدر الدكتور جيمس كيث، أستاذ سوق العمل في جامعة لندن أن 59 مليون وظيفة أوروبية أو 26 في المائة من إجمالي القوى العاملة باتت معرضة للخطر على الأمد القصير نتيجة الأزمة الصحية والاقتصادية.
وقال لـ"لاقتصادية" إنه "بمجرد عودة الانتعاش الاقتصادي قد يكون لدى أوروبا نقص في العمالة الماهرة، بسبب نقص المعروض من العمالة، ومن المرجح أن يتقلص عدد السكان في سن العمل بمقدار 13.5 مليون شخص أو 4 في المائة من قوة العمل بحلول 2030 بسبب الشيخوخة".
ويستدرك قائلا "22 في المائة من العمل في الأنشطة الاقتصادية الحالية يمكن أتمتته بنهاية هذا العقد، يضاف لهذا أن الـ48 مدينة الأكثر ديناميكية في أوروبا ستكون في حاجة إلى جذب 2.5 مليون عامل من مناطق أخرى، كما أن تغير الهيكل الاقتصادي الأوروبي نتيجة أتمتة سوق العمل سيتطلب اكتساب مهارات جديدة، ونحو 95 مليون عامل أوروبي قد لا يحتاجون إلى تغيير وظائفهم، ولكنهم سيكونون في حاجة إلى إعادة تدريب، بينما سيكون على 21 مليون عامل أوروبي تغيير وظائفهم، أضف لذلك أن الأتمتة ستؤدي إلى تنقل أكثر من نصف القوة العاملة في أوروبا بين الأسواق، التي تعمل فيها وأسواق جديدة داخل القارة".
في ظل هذا المشهد المستقبلي، الذي يشير إليه الدكتور جيمس كيث، فإن أرباب العمل والشركات الدولية سيقع عليها أعباء متزايدة ترتبط بمدى براعتها في اتخاذ قرارات استراتيجية، ترتبط بطبيعة النماذج، التي ستضعها وتتبناها في اختياراتها للعمالة، تلك النماذج يجب أن تعكس في الأساس مزيجا من المهارات المهنية للعمالة المنتقاة، أضف إلى ذلك أن تزايد الاندماج بين مكونات الاقتصاد الأوروبي، يحتم على الشركات أن تضع العامل الجغرافي في اعتبارها عند اتخاذ قرارات التوظيف لمساعدة الأفراد في التوصل إلى فرص عمل جديدة.
ويعتقد أغلب الخبراء في الشأن الاقتصادي الأوروبي أن الحد من الفوارق الإقليمية وتحديدا في سوق العمل يجب أن يكون الهدف الأساسي لأوروبا في مرحلة ما بعد كورونا وعودة الانتعاش الاقتصادي للقارة، وخلال العقدين الماضيين نجح الاتحاد الأوروبي في تقليل الفوارق نسبيا بين الاقتصادات الأقل ازدهار، خاصة في شرق القارة وبلدان الشمال الأوروبي، وإذا كانت قصة التوظيف إيجابية قبل الوباء، فإن الآراء تتباين حولها في مرحلة ما بعد كورونا.
في هذا المجال، يرى الخبير الاقتصادي في الشأن الأوروبي الباحث صامويل ديكنز أن المواقف والاهتمامات العامة للعمال بشأن مستقبلهم المهني تتحدد في الأساس بناء على التغيرات، التي يرونها في بيئات عملهم.
ويقول لـ"الاقتصادية" "بيئة العمل تلعب دورا رئيسا في اتخاذ العامل قرارا بالبقاء في سوق عمل محددة ذات طابع محلي أو اتخاذ القرار بالانتقال إلى سوق عمل خارج الحدود الوطنية، فانعدام الأمن الوظيفي سيمثل الهاجس الأكبر في سوق العمل في مرحلة ما بعد كورونا، خاصة إذا لم يتحقق الانتعاش الاقتصادي المطلوب، ونتيجة غلبة هذا الشعور على سوق العمل في البلدان الأوروبية الأقل تطورا مثل شرق وجنوب أوروبا، فإننا يمكن أن نشهد تنقلات للعمالة على نطاق واسع في اتجاه أسواق العمل في شمال وغرب أوروبا، هذا يحدث مستوى أعلى من البطالة في تلك الأسواق، ما سينعكس سلبا على معدلات الأجور، ومن ثم هناك حاجة ملحة إلى إطار تنظيمي جديد لأسواق العمل الأوروبية".
تتفق تلك المخاوف مع اتجاه عام ساد قبل تفشي وباء كورونا، فعدد الأوروبيين في سن العمل، الذين يعيشون ويعملون في بلد أوروبي آخر غير موطنهم الأصلي تضاعف خلال الفترة من 2003 إلى 2018 من أقل من ثمانية ملايين عامل إلى 16 مليون عامل، وبالطبع قاد عمال جنوب وشرق أوروبا هذا الاتجاه.
وإذا كان الخبراء يرون أن الأتمتة قد تمثل حلا لعديد من معضلات سوق العمل الأوروبية مستقبلا، فإن الأمر لا يبدو سهلا أو ميسرا أو أنه سيتم بين عشية وضحاها.
وتوضح لـ"الاقتصادية"، المهندسة كارولين مكنزي المتخصصة في مجال البرمجيات في قسم الذكاء الصناعي في جامعة أكسفورد أن وتيرة ومدى الأتمتة ستعتمد على دراسة الجدوى لاعتمادها، ومستويات الأجور، والقبول التنظيمي ومدى استعداد المستهلكين للتعامل مع الروبوتات، والقدرات الفنية، كما أن الوظائف النادرة غالبا ما تكون مؤتمتة في أوروبا.
وتضيف ربما التغير الأكبر في سوق العمل الأوروبية في مرحلة ما بعد كورونا سيرتكز على مزيد من استخدام الروبوتات أو إعادة تخصيص العمال لأوقاتهم لينصب عملهم على المهام ذات الإنتاجية المرتفعة، التي لم تطور بعد الآلات للقيام بها، هذا التوجه بطبيعة الحال سيظهر في البلدان الأوروبية المتطورة مثل ألمانيا وهولندا وشمال إيطاليا، بينما ستظل البلدان الأقل نموا تواصل اعتمادها على الأيدي العاملة البشرية.
وتراهن أوروبا أنها باستعادة انتعاشها الاقتصادي ستكون قادرة على توفير ستة ملايين وظيفة بحلول 2030، وإذا كان هذا تطورا إيجابيا لا شك فيه، فإن القضية، التي ستظل محل اهتمام تتعلق بالكيفية، التي سيتم بها توزيع الوظائف الجديدة على البلدان الأوروبية، وإلى أي مدى سيؤدي هذا التوزيع إلى ترسيخ الملامح الراهنة لسوق العمل، حيث يتجه العمال من البلدان الأوروبية الأقل تطورا في الشرق والجنوب للعمل في أسواق البلدان الأوروبية الثرية مثل ألمانيا، أم أن الوظائف الجديدة ستكون أكثر ارتباطا بالتغيرات الهيكلية التي تشهدها سوق العمل الأوروبية في مرحلة ما بعد كورونا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات