تقارير و تحليلات

هروب من الأسهم نحو السندات الآمنة .. رهانات قبل رفع الفائدة الأمريكية

هروب من الأسهم نحو السندات الآمنة .. رهانات قبل رفع الفائدة الأمريكية

انخفضت أسعار الأسهم وعائدات السندات الحكومية خشية أن تفسد سلالة كورونا الجديدة بوادر تعافي الاقتصاد العالمي.

ما إن أطلت السلالة الجديدة من فيروس كورونا برأسها، وأطلقت عليها منظمة الصحة العالمية اسم "أوميكرون" حتى استنفرت الأجهزة والمؤسسات الصحية وغير الصحية في العالم أجمع. من بين المستنفرين، الأسواق الاقتصادية أيضا، ولكن كل استنفر بطريقته.
وشددت الحكومات قيود السفر إلى ومن البلدان التي يعتقد أن السلالة الجديدة قادمة منها، حيث بدأت تلوح في الأفق مجددا قيود الحجر الصحي والعودة المكثفة إلى الكمامات والمواد المطهرة. أما الأسواق فكعادتها استنفرت من خلال الانكماش والتراجع، إذ انخفضت أسعار الأسهم وعائدات السندات الحكومية، خشية أن تفسد سلالة كورونا الجديدة بوادر تعافي الاقتصاد العالمي.
وانخفض مؤشر داو جونز الصناعي بنحو 2.5 في المائة، الجمعة، في أكبر تراجع للمؤشر في يوم واحد منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2020، أما مؤشر ستاندرد آند بورز فتراجع بـ2.3 في المائة، ومؤشر ناسداك بـ2.2 في المائة، إذ كانت جلسة الجمعة "سوداء" بالفعل على المؤشرات الثلاثة.
مؤشرات البورصة لم تكن الوحيدة المتراجعة، أسعار النفط أيضا سارت في الاتجاه ذاته فانخفض سعر النفط الخام الأمريكي أكثر من 10 في المائة، نتيجة قلق التجار من العودة مرة أخرى إلى عمليات الإغلاق ومن ثم انخفاض الطلب على الوقود، حتى العملات الافتراضية وتحديدا بيتكوين لم تكن بعيدة عن هذا الاتجاه.
وسط تلك الأوضاع المقلقة سادت الرغبة بين المستثمرين في البحث عن ملاذات آمنة لأموالهم. بالطبع كان الذهب من أبرز تلك الملاذات، فارتفعت أسعاره ولكن بنسب طفيفة، في الوقت ذاته شهدت الأسواق أكبر ارتفاع في أسعار سندات الخزينة الأمريكية قصيرة الأجل، ما يكشف عن رغبة المستثمرين في الهروب إلى السندات الآمنة.
ونتيجة للعلاقة العكسية بين أسعار السندات والعائد منها فإن عوائد السندات طويلة الأجل لعشرة أعوام انخفضت من 1.644 في المائة إلى 1.484 في أكبر انخفاض لها منذ آذار (مارس) 2020، بينما تقلص العائد على سندات الخزينة لأجل 30 عاما أيضا.
لا شك أن الجميع حاليا مصاب بالقلق والتوتر في انتظار معرفة المزيد عن السلالة الجديدة، وكيفية تفاعل الحكومات معها وطبيعة الإجراءات التي ستتخذ لمواجهتها.
بدورها، قالت لـ"الاقتصادية" روث ديفيد المحللة المالية في بورصة لندن، "في بدايات الأسبوع الماضي ارتفع عائد سندات الخزينة لأجل عشرة أعوام، وذلك لتفاعل الأسواق مع خبر إعادة تعيين جيروم باول رئيسا لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، حيث يتبنى باول صراحة منهج يدعو إلى تقليص سياسات التيسير الكمي والتحفيز المالي التي تبناها المجلس الاحتياطي الفيدرالي لأكثر من عقد".
وأضافت "في الوقت ذاته كانت معدلات الإصابة بفيروس كورونا آخذة في الارتفاع في أوروبا، وبدأت بعض الحكومات الأوروبية في فرض إغلاق جزئي، في وقت كانت جميع المؤشرات تشير إلى أن الاقتصاد الأمريكي يستعيد عافيته، ما دفع المستثمرين إلى استنتاج أن باول عند مرحلة ما سيقوم برفع أسعار الفائدة، ليسبق بذلك البنك المركزي الأوروبي، تلك القناعات في ذلك الوقت دفعت بالأسواق إلى التخلص من العملات الأخرى مثل اليورو والين والاسترليني والفرنك السويسري لمصلحة الدولار، لشراء سندات خزينة".
ويراهن قطاع كبير من المضاربين على ارتفاع أسعار سندات الحكومة الأمريكية مستقبلا، فالأمريكيون الذين يقتربون من سن التقاعد قطاع كبير وغني. ومن المتوقع أن تنمو تلك المجموعة بسرعة كبيرة في الأعوام المقبلة، مع ارتفاع نسبة الأمريكيين البالغين 65 عاما فما فوق من نحو 17 في المائة العام الماضي إلى 21 في المائة بحلول 2030، خاصة أن شيخوخة السكان تبدو أحد الملامح البارزة في الاقتصاد الأمريكي. هذا القطاع يفضل بشكل متزايد اللجوء إلى الاستثمارات منخفضة المخاطر، التي توفر تدفقات نقدية ودخل ثابت على أفق زمني طويل، وسندات الخزينة واحدة من أفضل الاستثمارات التي تحمل تلك الملامح، وتلائم تلك الفئة العمرية.
في هذا السياق يشر الخبير المصرفي إل.دي أرثر إلى جانب آخر يعزز توقعات البعض بأن الإقبال على سندات الخزينة الأمريكية طويلة الأجل سيزداد على المدى الطويل، وهو الديون.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "عبء الديون يتراكم في الولايات المتحدة نتيجة الإنفاق المالي الضخم خاصة في فترة تفشي وباء كورونا، والإعفاءات الضريبية الكبيرة في عهد الرئيس ترمب، هذا يحد من إمكانية اقتراض الولايات المتحدة من الأسواق الدولية مستقبلا، ويزيد من احتمالية تراجع النمو، فقد بلغ الدين الفيدرالي الذي يحق للمواطنين الأمريكيين - إجمالي قيمة سندات الخزينة التي يمتلكها الأمريكيون - العام الماضي 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لأول مرة منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، وسيواصل هذا الدين الفيدرالي الارتفاع، ولهذا فإن العديد من المستثمرين الذين يراهنون على أن التضخم سيواصل الارتفاع يراهنون أيضا على سندات الخزينة طويلة الأجل".
إذن وجهة النظر السائدة حتى الآن هي أن المضاربين على ارتفاع أسعار سندات الخزينة الأمريكية التي تعد أكبر سوق للدخل الثابت في العالم، سيتجاهلون الارتفاع المتواصل في معدل التضخم في الولايات المتحدة الذي بلغ أعلى مستوى له منذ ثلاثة عقود. والسبب وراء تلك القناعة أن التحولات طويلة الأجل في الاقتصاد الأمريكي تجعل الاستثمار في السندات مربحا.
لكن التطورات الجارية في سوق السندات تترك بصماتها على سوق الأسهم الأمريكية، خاصة في فترات عدم اليقين الاقتصادي السائدة الآن. فالمحافظ الاستثمارية التي تركز على السندات تميل إلى التعافي السريع من الانكماش مقارنة بالمحافظ التي تميل أكثر نحو الأسهم. وغالبا ما يفضل المتقاعدون وأصحاب المعاشات تلك الاستراتيجية الاستثمارية، حيث كشفت الدراسات الاقتصادية أن المحافظ الاستثمارية التي تخصص أكثر من 70 في المائة للأسهم والباقي في السندات والنقد تستغرق أكثر من عامين للتعافي مقارنة بسبعة أشهر فقط للمحافظ الاستثمارية التي تزيد فيها نسبة السندات والنقد على 70 في المائة والباقي في الأسهم.
من هنا يرى الخبير الاستثماري توم جوزيف أن السلالة الجديدة من فيروس كورونا ستدفع المستثمرين إلى البحث عن بر آمن لاستثماراتهم، وهذا يعني ابتعادهم عن سوق الأسهم إلى حين.
ويؤكد لـ"الاقتصادية" أن الأسواق تعلم الآن أن القناعة العامة التي سادت في الأشهر الأخيرة بأن حملات التطعيم الدولية حدت من وباء كورونا لم تكن قناعات دقيقة، إضافة إلى أن شبح إجراءات الإغلاق يحوم مرة أخرى في الأجواء، ما يعني اختناقات في سلاسل التوريد وتوقف المصانع عن الإنتاج وتراجع العملية الإنتاجية وانخفاض أرباح الشركات ومن ثم تراجع أسعار الأسهم.
ويضيف "السندات ستتجه للأعلى، وعلى العكس ستتجه الأسهم إلى الأسفل".
ولكن هل ستتجه جميع أنواع الأسهم إلى الانخفاض؟ لا تزال الصورة غير واضحة حتى الآن، فبينما يرى البعض أن سوق الأسهم الأمريكية بكاملها ربما تشهد انسحابات واسعة النطاق في الفترة المقبلة، إذا ما انتشرت السلالة الجديدة من كورونا، فإن الدكتورة إلين راسل أستاذة التحليل المالي في جامعة لندن تعتقد أن الأمر سيتوقف على طبيعة الإجراءات التي ستتخذها الحكومات لكيفية التعامل مع الوضع.
وتقول لـ"الاقتصادية": "إن طبيعة الإجراءات المتخذة ستحدد كيفية تفاعل الأسواق مع سوق الأسهم، السوق ككل ربما تفقد جاذبيتها وانتعاشها الذي بدأ في الظهور مع تعافي الاقتصاد الأمريكي، لكن بعض القطاعات ربما تكون أكثر تضررا مثل شركات الطيران والسفر والسياحة، حيث إن طبيعة تدابير الحماية المتخذة لن تكون في مصلحة هذا القطاع، أما شركات التكنولوجيا فمن المتوقع أن تحافظ أسهمها بشكل نسبي على الزخم الذي تتمتع به".
وتضيف "ولكن من غير المرجح أن يكون الزخم في شركات التكنولوجيا بذات القوة التي حدثت في فترات الإغلاق السابقة، حيث تكالب المستهلكون عبر العالم حينها على شراء الأدوات الرقمية نتيجة فترات طويلة من البقاء في المنزل، والآن السوق مشبعة والطلب لن يكون بالقوة ذاتها التي كانت في مراحل سابقة".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من تقارير و تحليلات