ثقافة وفنون

السكر .. تاريخ أسود تجبه حلاوة الذهب الأبيض

السكر .. تاريخ أسود تجبه حلاوة الذهب الأبيض

السكر .. تاريخ أسود تجبه حلاوة الذهب الأبيض

كانت ثمار هذه المعاناة تشكيل مثلث تجارة عالمي.

لا يكاد بيت يخلو من السكر، بمختلف أنواعه وأشكاله، فهذه المادة العجيبة من الأشياء التي تحتفظ الذاكرة بمذاقها، منذ أول تذوق لها، فالأغلبية على موعد يومي مع الذهب الأبيض، في الشاي أو القهوة أو غيرهما من المشروبات أو حتى المأكولات التي يتناولونها. لكن الأقلية فقط من تملك معلومات عن مسيرة السكر عبر التاريخ، وعن الجانب المظلم في قصة السكر، وكذا التحولات الكبرى التي أحدثها "عصر السكر" في موازين القوى في العالم.
أشياء وتفاصيل وأخبار وحوادث نكتشفها في كتاب جميل، للمؤلفين مارك أورنسون ومارينا بودوس، بعنوان "كيف غير السكر العالم؟" Sugar changed the world. يقدم فيه الزوجان رواية عن تاريخ العالم من خلال الأشياء، فالأسلوب السردي للكتاب يزج بالقارئ في جلسة استماع للأصوات المفقودة والمهمشة، من خلال التنقيب في تاريخ ثقافي واجتماعي ظل طي التهميش والتجاهل.
إن قصة الكتاب أكبر بكثير من مجرد مادة مؤثرة، فيما نصنع من مأكولات ومشروبات، إنها قصة عن حركة ملايين من البشر، وسردية عن الأصول الأولى لفكرة العولمة في العالم، وأخبار عن ثروات ضخمة تم اكتسابها وأخرى تم فقدانها. تاريخ من القسوة والفرح بسبب بلورات صغيرة تحلي الشاي والقهوة، أو تزين قطع الحلوى والكعك في الأعياد والمناسبات.
في "عصر العسل"، لا وجود لهذه الحبوب البيضاء التي تذوب على اللسان في أي مكان على الأرض، فالعسل كان وسيلة للعيش، حيث كان الأفراد يأكلون الأطعمة التي تزرع بالقرب منهم، ويواصلون عمل آبائهم وأجدادهم نفسه، مع الولاء والاحترام والتقدير للملوك والنبلاء، مقتدين بطريقة النحل في أسلوب عيشهم. قبل أن يكتشف السكر، معلنا بذلك نهاية هذا الإيقاع في الحياة.
تفيد كتب التاريخ بأن نيارخوس، الصديق المقرب من الإسكندر الأكبر، هو الذي اكتشف قصب السكر في شبه الجزيرة الهندية، عندما غزاها. فقد وجد القصب الذي ينتج العسل، رغم عدم وجود النحل هناك. وتنسب مصادر أخرى اكتشاف قصب السكر إلى الجزيرة التي تعرف حاليا باسم "غينيا الجديدة"، في شمال أستراليا. إذ يرجح أن البشر زرعوا القصب في هذه الجزيرة قبل نحو خمسة آلاف عام من اكتشاف الإغريق له.
مع مرور الوقت، دخل السكر في الهند ضمن التعاليم الدينية، فأول سجل مكتوب عنه، يفيد بأن الهند استخدموه قربان شكر في الاحتفالات الدينية والسحرية. وهناك حديث عن كيفية استعمال قصب السكر لغرض التعبد وطلب المساعدة من الإله "دورغا". وتحدث الأطباء في بلاد فارس، بمدرسة جوندي شابور، نحو 600 ميلادية عن دواء قادم من الهند، يدعى شاركارا "شكر". وامتد إلى الصين من الشرق، ووصل حتى أوروبا من الشمال.
وعرّفت الحروب ضد المسلمين أوروبا بالسكر، فعند السير إلى الأرض المقدسة اكتشف الأوروبيون بعض النباتات التي يسميها أصحاب الأرض "قصب العسل"، ذات الشبه الكبير بقصب الخيزران. فعمدوا لحظة الشعور بالجوع إلى مضغ القصب طوال الوقت، بسبب طعم العسل.
حديثا، تعود بداية القصة المعاصرة للسكر إلى منطقة بحر الكاريبي، بعدما ازدهرت النباتات التي جلبها كولومبوس معه إلى جزيرة هيسبانيولا "هايتي والدومنيك الآن"، لتبدأ بعدها زراعة السكر في الانتشار، وأصحبت أشبه بما يمكن تسميته بثورة "الذهب الأبيض". فرأى كثير من الأوروبيين في هذه التجارة بابا لكسب ثروة واسعة، باستغلال أفواج العبيد المتدفقة من المستعمرات.
كان السكر هو السبب المباشر لتوسيع تجارة الرق في العالم، فقد وضعت حلاوة هذه المادة ملايين الناس في مرارة دائمة، في جميع أنحاء العالم، بتحويلهم إلى عبيد مقيدين في سلاسل، ومنحت عددا قليلا من الأوروبيين فرصة لمراكمة ثرواتهم. وهنا تحديدا بدأت تنسج صفحات سوداء في تاريخ السكر، فقد "أنتج العمل الأكثر وحشية في الحقول الطعم الحلو للسكر".
ينقل الكتاب كلام زائر جاء إلى البرازيل، بعدما حولها الأوروبيون إلى مركز صناعة السكر، عن ظروف العمل قائلا "يعمل الناس الذين يحملون لون الليل، ويتأوهون في الوقت نفسه دون نيل لحظة سلام أو راحة، من يرى كل تلك الآلات والصخب سيقول إن هذا هو الجحيم بعينه". وعلى لسان المؤلفين نقرأ "مرحبا بكم في الجحيم! إنها فترة الصباح الباكر على جزيرة الكاريبي، والعبيد الأفارقة، حيث مئات منهم، يتم إرسالهم إلى الحقول للعمل في المزارع، ظهورهم منحنية منهكة، وعيونهم يحرقها الدخان الذي يملأ المكان، يعملون بجد بينما يستمر مسؤول الحراسة في مراقبتهم، وهو راكب حصانه، وسوط مثبت على سرجه".
لقد تحول الأفارقة، في منطقة البحر الكاريبي أو أمريكا الجنوبية، إلى جزء من آلة صناعة السكر. فعلى مدى أربعة قرون، تم نقل ثلاثة ملايين إفريقي إلى البرازيل، حتى شاع هناك مثل يقول "لا برازيل بدون سكر، ولا سكر بدون عبيد، ولا عبيد بدون أنجولا". ففي بدايات القرن الـ17، على سبيل المثال، كانت السفن البريطانية تأخذ نحو 34 ألف عبد، في المتوسط، كل عام من إفريقيا، قبل أن يصبح العدد أزيد من 53 ألف عبد، بحلول منتصف القرن.
لا يزال التراث الشعبي المحلي يحتفظ ببعض من معاناة عمال السكر، فكثير من الأهازيج والرقصات الإيقاعية استطاعت أن تترجم مشاعرهم وهمومهم الحياتية، ففي البرازيل رقصة "ماكوليليه"، وكوبا ملحمة "الرئيس لا يريدني أن أقرع الطبل"... فعلا إنه الجحيم، بتعبير الكاتبين، فالعبيد الذين عملوا دون توقف لم يحصلوا على شيء مقابل عملهم، سوى أن يعيشوا يوما آخر، ليعملوا أكثر!
كانت ثمار هذه المعاناة، تشكيل مثلث تجارة، تحمل فيه السفن الخارجة من أوروبا الأقمشة والملابس والسلع البسيطة المصنعة إلى إفريقيا، وتشتري بعد بيعها العبيد الذين يتم شحنهم عبر المحيط الأطلسي إلى الجزر، قصد بيعهم مقابل السكر، بعد ذلك تجلب السكر إلى أمريكا الشمالية، ليتم بيعه أو تحويله إلى شراب الرم.
استطاعت تجارة السكر، بين القرنين الـ17 والـ18، ولا سيما بعد نجاح البرتغاليين في إدخال مشروب تشاو "الشاي" على الخط، وتخلي الطهاة الأوروبيين عن السكر كديكور وتوابل تضاف إلى الأطباق، لمصلحة اختراع فكرة وجبات سكرية تكون خاتمة حلوة للوجبة، استطاعت قيادة الاقتصاد بأكمله، معلنة بداية "عصر السكر" حيث ربطت أوروبا وإفريقيا وآسيا والأمريكتين، وأعادت تشكيل العالم أكثر من أي حاكم أو إمبراطورية أو حرب.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون