FINANCIAL TIMES

نهاية عصر .. صناديق التحوط تفترس صحف أمريكا الإقليمية

نهاية عصر .. صناديق التحوط تفترس صحف أمريكا الإقليمية

بمناسبة الذكرى السنوية الـ250 لصدور صحيفة "هارتفورد كورانت" دعت الناشرة، نانسي ماير، جميع العاملين إلى صورة جماعية أمام مبنى الصحيفة في تشرين الأول (أكتوبر) 2018. تصوير: ديفيد بتلر "هارتفورد كورانت"

نهاية عصر .. صناديق التحوط تفترس صحف أمريكا الإقليمية

غرفة الأخبار في صحيفة "نيويورك تايمز" التي بلغ عدد العاملين فيها أعلى مستوياته على الإطلاق وتضاعف تقييم أسهمها أربع مرات منذ عام 2016، فيما وصل عدد المشتركين في خدمتها الرقمية إلى 7 ملايين مشترك.

نشر فيها جورج واشنطن إعلانا لتأجير جزء من أرضه في ماونت فيرنون وقاضاها توماس جيفرسون بدعوى التشهير، وخسر. إنها "هارتفورد كورانت" أقدم صحيفة تصدر وتبقى على قيد الحياة في أمريكا.
على مر القرون تعرضت لكثير من التهديدات، لكن اليوم يخشى بعض مراسليها الشباب على مستقبلها. تجمعوا في وسط المدينة في عصر يوم ممطر من شهر تشرين الأول (أكتوبر)، ولديهم مهمة جديدة: العثور على شخص ثري ذي عقلية مدنية لشراء صحيفتهم.
أملهم هو إنقاذ كورانت مما يرون أنه براثن المستثمرين الذين يسعون فقط وراء الربح بدلا من دعم المثل الديمقراطية وفضح العلل الاجتماعية. إميلي بريندلي، وهي صحافية نشطة تبلغ من العمر 25 عاما وتقود تغطية الصحيفة لفيروس كورونا، تلخص وجهة نظرها حول وجودها في ظل مالكها الحالي، وهو صندوق تحوط في نيويورك: "في أفضل الأحوال نحن أرقام على جدول بيانات. في أسوئها لسنا حتى على جدول بيانات".
من نواح كثيرة، مدينة هارتفورد في ولاية كونيتيكت هي استعارة مناسبة للأعمال الصحافية الأمريكية. كانت في الماضي مركزا صاخبا للابتكار وموطنا لكتاب مثل مارك توين وهارييت بيتشر ستو، لكن أكثر من ثلث سكانها يعيشون الآن تحت خط الفقر. تمتزج مباني المكاتب المصنوعة من الجرانيت مع السماء الرمادية، بينما تذكر تماثيل توين وألكسندر هاملتون الزوار بالفخامة السابقة لعاصمة نيو إنجلاند.
كان هاملتون لا يزال طفلا عندما بدأت كورانت حياتها في 1764. وبحلول نهاية القرن الـ20، كانت هذه الصحيفة التي يعمل فيها 400 صحافي تتجول في أنحاء الولاية للكشف عن القصص الدسمة المثيرة للاهتمام، وفازت بعدة جواز بوليتزر على طول الطريق.
اليوم تم تقليص هذا العدد إلى نحو 52. انخفض عدد الموظفين بمقدار الثلث العام الماضي، تاركا اثنين من الصحافيين في العشرينات من عمرهما لتغطية أزمة فيروس كورونا لسكان ولاية كونيتيكت البالغ عددهم 3.5 مليون نسمة. كانا يعملان لمدة 16 ساعة في اليوم ويغطي الواحد منهما عمل الآخر خلال الصيف، في عزلة تامة إلى حد كبير في شقق ضيقة.
تقول بريندلي: "لم يكن من الممكن بالنسبة لي أن أحتاج إلى يوم إجازة أو أن أصاب بانهيار، لأنه من غيرى سيقوم بهذا العمل؟" وهي تنسق تغطيتهما للأزمة على برنامج "سلاك" ليلا ونهارا مع زميلها أليكس بوترمان (26 عاما) الذي يرتدي سترة بقبعة سوداء وبنطالا ضيقا من الكاكي خلال جولتنا، وعلى وجهه كمامة تغطي لحيته المشذبة بعناية.
بعد أن تحطمت أحلام الطفولة بأن يصبح لاعب بيسبول محترفا، استقر بوترمان في الكتابة عن الرياضة من أجل الصحيفة التي كان يقرأها على الإفطار كل يوم أثناء نشأته. يقول: "في مكان ما على طول الطريق، بدأت أقدر فكرة أن أروي الشيء كما هو". أخيرا استبدل بالكتابة الرياضية مطاردة جائحة فتاكة في أنحاء ولاية كونيتيكت والقتال من أجل تغيير مستقبل صحيفته.
الوضع في كورانت يعكس ظاهرة في جميع أنحاء البلاد. الصحف الإقليمية والمحلية الصغيرة ومتوسطة الحجم، التي كانت ذات يوم تسبح في النقود وتقدم خدمات أساسية للأمريكيين الذين يعيشون خارج نيويورك أو سان فرانسيسكو، تم تحويلها إلى أصول متعثرة يتناقلها المستثمرون لتحقيق أرباح قصيرة الأجل.
في السابق كانت صناعة تديرها العائلات الثرية، واليوم تسيطر الأسهم الخاصة وصناديق التحوط ومجموعات الاستثمار الأخرى على نحو نصف الصحف اليومية الأمريكية، وفقا لحسابات "فاينانشيال تايمز"، بعد جولات لا نهاية لها من الاندماج في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008 . تم إغلاق نحو واحدة من كل أربع صحف أمريكية، أو ما يقارب 2200 صحيفة، في الأعوام الـ15 الماضية، وفقا لتقرير صادر عن كلية الصحافة والإعلام في جامعة نورث كارولينا. كثير من الصحف الـ6700 المتبقية أصبحت، بحسب تعبير جامعة نورث كارولينا "صحفا شبحية": أي بقايا من ذواتها السابقة، مليئة بالإعلانات والبرقيات الواردة من وكالات الأنباء بعد أعوام من تقليصها.
في التقرير، قالت بينيلوبي ميوز أبيرناثي، الرئيسة الفخرية لكرسي نايت للصحافة واقتصاديات الإعلام الرقمي في جامعة نورث كارولينا، إن الصحف لعبت دائما دورا حيويا في الولايات المتحدة: "في الوقت الذي كان فيه الرواد يتجهون نحو الغرب في القرن الـ19، كان من أوائل مستلزمات العمل – مباشرة بعد تعيين رجل قانون للحفاظ على النظام – هو تأسيس صحيفة محلية".
وأشارت إلى أن التغييرات التكنولوجية مثل نمو الأخبار التلفزيونية بعد الحرب العالمية الثانية، وظهور الإنترنت في العقدين الماضيين أديا إلى "تدمير أنموذج الأعمال الربحي الذي كان يدعم الصحافة المحلية" وبحلول أوائل 2020 "كان كثير من الناجين يتشبثون بهوامش ربح ضئيلة. ثم ضرب فيروس كورونا".

سباحة عكس التيار

لم يكن الجميع خاسرين. بلغ عدد موظفي غرفة الأخبار في نيويورك تايمز أعلى مستوياته على الإطلاق. تضاعف تقييم أسهمها أربع مرات منذ 2016، وأصبحت قوة نادرة في الصحافة الأمريكية، حيث نمت إلى سبعة ملايين مشترك رقمي. لكن هذا يمثل أكثر من أربعة أضعاف عدد القراء الذين يدفعون على الإنترنت لصحيفة لوس أنجلوس تايمز وبوسطن جلوب وجميع الصحف الـ100 التي تملكها جانيت، أكبر شركة نشر أمريكية للمطبوعات من حيث عدد الصحف.
يجادل نشطاء وأكاديميون بأن انخراط مجموعات الاستثمار وصناديق التحوط في الأخبار المحلية يقضي بالتدريج على المجتمع المدني. وجدت منظمة الكتاب PEN أن الأشخاص الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الأخبار هم أقل احتمالا للتصويت، في حين أن فقدان الصحف يؤثر بشكل كبير في المجتمعات الريفية الفقيرة الأقل تعليما.
إياد أختر، الكاتب المسرحي الحائز على جائزة بوليتزر، كتب في 2019 أن "الأخبار المحلية القوية" في الولايات المتحدة لا تؤدي فقط إلى زيادة إقبال الناخبين وتحميل المسؤولين وقادة الشركات المسؤولية، لكنها "تعمل ضد الانهيار واسع النطاق الآن في التماسك الاجتماعي من خلال سرد حياة المكان وسكانه".
يقول بوترمان بشكل واقعي عن اختياره الوظيفي: "لا أشعر بأي ندم". لكن عندما يتحدث عن المستقبل، فإن ثقته تتحول إلى قلق. لكن "عندما يسأل الناس ’ماذا ستفعل في غضون عشرة أعوام؟‘ أجد نفسي مضطرا لأن أقول في نفسي ’أرجو أن يظل بإمكاني العمل في هذه الصناعة‘. أهتم بهذا الأمر أكثر من مجرد أن تكون لدي وظيفة. كورانت مؤسسة. وهي تحظى بالاحترام. إنها مهمة حقا".

حاصد الأرواح المتجهم

بالنسبة لآلاف الصحافيين الذين يعملون في شركة تريبيون للنشر، التي تتضمن صحفا محترمة مثل كورانت وشيكاغو تريبيون، هناك اسم واحد يرون أنه أكبر تهديد لوظائفهم ومستقبل صحفهم: هيث فريمان. فريمان هو رئيس صندوق تحوط متكتم اسمه آلدن جلوبال كابيتال Alden Global Capital. على هذا النحو، فقد أصبح "تجسيدا لرأسمالية الكواسر الجديدة التي غزت ما كان يوما ما، وليس قبل فترة طويلة، شركة تهتم بمهمتها ودورها المدني"، كما يقول كين دكتور، محلل صناعة الإعلام، في إشارة إلى القطاع الأوسع.
بعض موظفي شركاته والمصرفيين الذين أبرموا صفقات معه يشيرون إلى فريمان على أنه "حاصد الأرواح المتجهم" و"مدمر الصحف". وهو يعتقد أنه ينقذ المطبوعات: فهو يقول في رسالة بريد إلكتروني عبر مستشار العلاقات العامة، ديفيدسون جولدن: "اشترينا جميع صحفنا وأنقذناها من الإفلاس أو من مصير يشبه هذا المصير".
تقول كريسي كارفالو، وهي متحدثة باسم مجموعة ميديا نيوز جروب، الشركة القابضة لصندوق آلدن: "من الأسهل كثيرا الإدلاء بتعليقات حادة ومتعالية مجهولة المصدر بدلا من القيام فعليا بالمهمة الصعبة المتمثلة في التأكد من أن المؤسسات الإخبارية في جميع أنحاء أمريكا قادرة على خدمة المجتمعات خلال فترة طويلة من انخفاض الإيرادات".
في أواخر 2019، وضع آلدن أنظاره على شركة تريبيون للنشر، وبالتالي، هارتفورد كورانت. بشرائه ثلث أسهم السلسلة مقابل 145 مليون دولار وتأمين مقاعد في مجلس الإدارة لحلفائه، سرعان ما أظهر آلدن وجوده. بعد بضعة أشهر من الكشف عن حصة آلدن، قدمت تريبيون عروضا لتسريح الموظفين عبر غرف الأخبار الخاصة بها وتم عزل رئيسها التنفيذي من قبل صندوق التحوط في نيويورك، كما يقول أشخاص لديهم معرفة مباشرة بالأمر.
يتبع الموقف في كورانت الآن خطة مألوفة للصحف المدعومة من آلدن، وفقا لمقابلات مع أكثر من عشرة صحافيين حاليين وسابقين من تريبيون، أصر كثير منهم على التحدث دون الكشف عن هويتهم. في ظل آلدن، تم فصل هواتف وتلفزيون غرفة الأخبار. ثم أغلقت المطبعة الخاصة بها، ما أدى إلى إلغاء 151 وظيفة.
طريقة عمل فريمان مستوحاة من أسلوب القطع والحرق، أي ممارسة "الميزانية الصفرية" التي اشتهرت في وول ستريت لنجاحها بقدر ما اشتهرت بوحشيتها. وصفة فريمان: تخلص من غرفة الأخبار وقم ببيع العقارات، ما يساعد على استرداد سعر شراء الصحيفة، ثم تصفح كل بند للميزانية في ورقة حساب الصحيفة وقم بتخفيضه. تسريح العمال هو أمر معتاد. النتائج؟ الصحف "الشبحية" غير قادرة على إنتاج الكثير من باب الصحافة المحلية الأصلية.
مناقشة الموقف مع فريق العمل الذي يعمل منذ فترة طويلة في الصحيفة غالبا ما تشبه جلسة علاجية. يقول أحد المراسلين المخضرمين في مكالمة هاتفية استمرت ساعتين: "إذا كنت تعمل في هارتفورد كورانت (اليوم)، فأنت إما مجنون تماما أو لا تزال تحب وظيفتك أو مزيج من الاثنين معا".
في جولتنا، يضحك موظفو كورانت بنوع من الأسى على وضعهم. المدينة فارغة بشكل مخيف بالنسبة لأحد أيام السبت، مزيج من رحلة الضواحي والهدوء في ظل فيروس كورونا. ويقولون بحسرة إن السماء الملبدة بالغيوم المحبطة هي "شبيهة إلى حد كبير بوضع هارتفورد".

إغلاق غرفة الأخبار

بعد بضعة أشهر، تلقى مراسلو كورانت رسالة بريد إلكتروني كانوا يخشونها منذ شهور. في نقطة تفتيش أخرى من نهج آلدن، كان على الصحيفة أن تخلي مقرها بشكل دائم.
بعد يومين من عيد الميلاد أقامت مجموعة من موظفي كورانت الحاليين والسابقين حفلا وداعيا لغرفة التحرير. اجتمعوا أمام المبنى في فترة العصر الباردة المشمسة، ورووا قصصا عن لحظات مهمة وربتوا على أكتاف بعضهم البعض - مرتدين الكمامات وتجنبوا العناق.
في ذلك الحين لم يكن لديهم علم بما سيحدث، لكن كانت هناك مفاجأة في انتظارهم. عشية رأس العام الجديد بدأ هاتف بوترمان يرن مرة أخرى - إنه واحد من عدة مراسلين في النقابة التي تنظم حملة "أنقذوا صحيفتنا كورانت". في طلب تم تقديمه إلى الجهات الرسمية تبين أن صندوق آلدن خاطب شركة تريبيون بشأن شراء الشركة بأكملها، في عرض قدَر قيمة شركة النشر بمبلغ 520 مليون دولار. ستعزز هذه الخطوة قبضة فريمان، وتهيئ معركة للسيطرة على الصحافة المحلية الأمريكية.
يقول بوترمان: "كان ذلك تذكرة بأنه لا يوجد وقت نضيعه. نفقد غرفة الأخبار لدينا ونعتقد أن هذا أسوأ ما يمكن أن يحصل. لكن الأمور يمكن أن تصبح أسوأ دائما".
لم تكن الصحف دائما تعاني ضائقة مالية. يتحدث موظفو هارتفورد كورانت السابقون عن حقبة ذهبية، بين أواخر الخمسينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بمزيج من الأسى وعدم التصديق بأثر رجعي. حضر المراسلون الرياضيون كل مباراة بيسبول يقيمها فريق نيويورك يانكيز وريد سوكس، وسافروا عبر البلاد لأشهر. يقول أحد المراسلين إنه أمضى 70 ليلة متتالية في أحد فنادق فلوريدا لمشاهدة تدريب الربيع للبيسبول – ولم يكن حتى الموسم العادي.
يقول مراسل "كورانت" المخضرم: "كنا نمزح، عندما كان لدينا 400 شخص، كان هناك عدد كبير منهم لا نعرف ماذا يفعلون. لا أحد يهتم لأننا كنا نجني الكثير من المال اللعين".
قامت كورانت بعمل مهم أيضا. كانت أحد المرشحين لجائزة بوليتزر لتغطيتها لمجزرة ساندي هوك في 2012، وهي واحدة من أعنف حوادث إطلاق النار في المدارس في تاريخ الولايات المتحدة، ونشرت مواضيع تراوح من الكشف عن أن الجيش الأمريكي كان يرسل جنودا مصابين بأمراض عقلية إلى الحرب في العراق إلى الإبلاغ عن أن مدربي كرة السلة في جامعة كونيتيكت كانوا يوزعون تذاكر الألعاب مقابل سيارات في منتصف العقد الأول من القرن الحالي (وهو ما نفاه المدربون).
لكن الأوقات الطيبة لم تدم. مع ظهور الإنترنت، استحوذت المنصات مثل كريجزليست ثم جوجل وفيسبوك على معظم عائدات الإعلانات التي دعمت الصحافة المحلية.
الركود ضرب الصناعة بأكملها، وحوَل الصحف الشهيرة إلى مصدر إزعاج للعائلات التي أصبحت غنية من ورائها. من آل بانكروفت، المالكين لصحيفة وول ستريت جورنال وآل ماكلاتشي المالكين لصحيفة ميامي هيرالد إلى شركات مثل تريبيون، فقدوا جميعا هيمنتهم الإعلانية بحلول العقد الأول من القرن الحالي.
أدى الركود الكبير في 2008 إلى توقف أي فائض باقٍ إلى الأبد. انخفضت عائدات الإعلانات للصحف الأمريكية من 49 مليار دولار في 2006 إلى 14 مليار دولار في 2018، وفقا لمركز بيو للأبحاث. تماما مثل الكساد العظيم في الثلاثينيات، حولت الأزمة المالية كثيرا من إمبراطوريات الصحف المثقلة بالديون إلى أصول متعثرة - أهداف مثالية لمديري صناديق وول ستريت الأذكياء. كانت تلك هي الفترة التي رأى فيها فريمان، وهو مدير صندوق تحوط صاعد، فرصته.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES