Author

لماذا لا يرتدع المرء عن التورط في الفساد؟

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
أخذت المملكة على عاتقها كإحدى أكبر المهام والمسؤوليات التنموية أن تحارب الفساد بأشكاله كافة، وعلى جميع المستويات الاجتماعية، بل بدأت بمحاربته من المستويات الأعلى إلى ما دونها من مستويات، ووصلت في قوة الضرب على أشكال الفساد كافة وكل من يتورط فيه إلى أن أصبحت مجتمعات عديدة تطالب حكوماتها بأن تقتدي بالمملكة في محاربة الفساد.
مما يحير المراقب وكل فرد يشاهد بفرح شديد الإعلانات المتكررة لهيئة الرقابة ومكافحة الفساد بمباشرتها مئات الحالات من الفساد، وإيقاف المتورطين في جرائمه المختلفة، أن يجد هناك مَن ما زالت نفسه الأمارة بالسوء تدفعه نحو ارتكاب جرائم فساد، ويزداد الأمر غرابة أن تجد كثيرا من أولئك المتورطين إما أنه يتسنم مواقع وظيفية رفيعة المستوى في الأجهزة العامة، وإما أنه يتمتع بالثراء والأموال والعقارات الواسعة، بمعنى أن كلتا الفئتين على اطلاع تام بالتحولات والإصلاحات الهيكلية الواسعة الجاري العمل على تنفيذها في بلادنا، وبما ينفي الجهالة عن أي من الفئتين تلك سواء في القطاعين العام أو الخاص، وعلى الرغم من كل ذلك إلا أنه ما زال هناك من لا يدرك العواقب الوخيمة جدا على حياته ومنصبه وسمعته وثروته، دع عنك غفلته الأكبر عن مراقبة الله لكل أقواله وأفعاله، وماذا ينتظره يوم الحساب وقد أوغل في الحرام، وبماذا سيرد عند السؤال عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟
على أن الأمر يستدعي فعلا الدراسة والبحث من قبل المختصين في علم الجرائم وغيرهم من ذوي الاختصاص، والاستفادة لاحقا من نتائج تلك الدراسات والأبحاث، إلا أن من الأهمية بمكان أن يزداد الاهتمام إعلاميا بكل أشكاله ووسائله بمخاطر الفساد، ويسلط مزيدا من الضوء عليه لا لأجل مزيد من التوعية والتذكير الدائمين بأهميتهما، بل أيضا لزيادة حصانة الأفراد على اختلاف أعمارهم ومواقعهم بالمخاطر الوخيمة التي ترتبط بأي شكل من أشكال التورط في الفساد، وأعني هنا مخاطره على من قد يتورط فيه سواء عن علم أو جهل أو لحظة ضعف منه، ليضاف هذا المشروع بكل تفاصيله، إلى مشروع ما تم التطرق إليه كثيرا عن الآثار الخطيرة للفساد في الاقتصاد الوطني ومقدراته.
تتصاعد أهمية الخوض إعلاميا بالشرح والتحليل والتحذير لكل أفراد المجتمع، وصولا إلى ما يشبه بناء جدران صلبة عالية من الوعي والتثقيف، يؤمل في وجودها وتطورها مستقبلا أن يصل المرء مهما كان موقعه الوظيفي أو المجتمعي إلى المستوى اللازم من الحصانة الذاتية التي تمنعه أولا من التورط في أي جريمة فساد، ثانيا يتحول بفضل وعيه وثقافته في هذا المجال تحديدا، ومعه بقية أفراد المجتمع إلى ما يشبه الأسوار المنيعة ضد أي ممارسات محتملة للفاسدين، وهو الأمر الذي بتحققه سيؤدي - بمشيئة الله تعالى - إلى المحاصرة المبكرة للفساد في مهده، ويؤذن بالقضاء عليه إلى أدنى مستوياته، وتكوين ما يشبه الثقافة المجتمعية المضادة لاختراق أي مخاطر تهدد استقرار الاقتصاد والمجتمع، سواء الفساد أو غيره من بقية المخاطر على اختلاف أنواعها.
سيكون من الأهمية بمكان هنا أن نشهد جميعا ولادة مبادرة وطنية في هذا الشأن، يتولى دفتها كل من هيئة الرقابة ومكافحة الفساد ووزارتي الإعلام والتعليم، وقد يرى ضم أجهزة أخرى إلى هذه المبادرة المقترحة، سواء من القطاعين العام أو الخاص، والانطلاق بها نحو أفراد المجتمع بشرائحهم كافة، وتتسم بالدرجة الأولى بطول النفس لعقود زمنية مقبلة لا مجرد أعوام، وإني على يقين تام - بتوفيق الله - بأن المبادرة ستشهد بوجود تلك الأجهزة أعلاه، كثيرا من التطوير والفعالية والكفاءة اللازمة، عدا ما ستحظى به من اهتمام ودعم مجتمعيين لا محدودين، سواء من قبل أفراد المجتمع السعودي أو مختلف المؤسسات والهيئات العلمية والمهنية في بلادنا.
يؤمل أن يتبلور ويترجم كثير من الطموحات والتطلعات الوطنية تحت مظلة هذا المبادرة المقترحة ويقدم التحفيز اللازم لها سواء من الأفراد أو المؤسسات، وتتحول جهودنا مجتمعة التي تستحق الثناء والتقدير الكبيرين من مجرد الرقابة والتصدي لهذا العدو ممثلا في الفساد، إلى مواقع أكثر هجوما وقوة ومبادرة ضد هذا العدو اللدود الذي سيعزز بصورة كبيرة جدا المكاسب والعوائد على الاقتصاد الوطني عموما، والقطاع الخاص وكل شرائح المجتمع على حد سواء، ولا يمكن حصرها في مجرد أوراق وأرقام مهما بلغ عددها، إنما يمكن التأكيد أنها ستأتي أكبر بكثير من عوائد إيقاف المتورطين في جرائم الفساد، وإيقاع أشد العقوبات والجزاءات عليهم، لتتجاوزها إلى بناء منظومة ثقافية مجتمعية عالية الوعي والمسؤولية، تدفع الجميع لحماية مقدرات البلاد والعباد من أي عبث أو فساد أو تقصير أو ممارسات مخالفة مهما كان نوعها أو حجمها أو موقعها.
إنشرها