ثقافة وفنون

مجتمع الشفافية .. في وداع الغيرية والاختلاف

مجتمع الشفافية .. في وداع الغيرية والاختلاف

بيونج تشول هان

مجتمع الشفافية .. في وداع الغيرية والاختلاف

في هذا الكتاب يمتزج النقد أحيانا بالسخرية.

برز بيونج تشول هان، الفيلسوف الكوري الجنوبي المولد، الألماني المواطنة، بقوة في الأعوام الأخيرة، على الساحة الفكرية والثقافية العالمية، بعد التداول الكبير الذي حظيت به مؤلفاته برؤيتها النقدية الاجتماعية للنظام الرأسمالي المعاصر، ولتداعيات الليبرالية الجديدة في مظاهرها وتجلياتها المختلفة، التي فاقت 20 مصنفا باللغة الألمانية، تم نقل أكثرها إلى لغات عالمية، خصوصا الترجمة الإنجليزية لأعماله، التي جعلتها متداولة على نطاق واسع في أوروبا وخارجها.
تظهر كتابات أستاذ الفلسفة في جامعة برلين للآداب وللفنون من حيث التصنيف أقرب ما تكون إلى مدرسة فرانكفورت، لدرجة أن قارئ عناوين مثل "ماهية السلطة" أو "مجتمع الإرهاق" أو "طوبولوجية العنف" أو "مجتمع الشفافية"، سيعتقد في الوهلة الأولى أن مؤلف الكتاب أحد أعلام الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت النقدية، فتأثرت أعمال الرجل بتراث هذه المدرسة جلي وواضح، لا يخطئه العقل قبل العين.
حضر الحس النقدي بقوة في مؤلفات الأكاديمي الألماني، فقد عرض قائمة من المفاهيم طبعت الحياة المعاصرة، وتطبعنا معها مع مرور الوقت، للنقد والمراجعة والتجريح، فقد انتقد كثيرا من الظواهر في الحقبة الحديثة، إذ يرى مثلا أن المجتمعات المعاصرة - على الرغم من شدة الاتصال فيما بين أفرادها - لا تؤلف جماعة، فثورة الاتصال الناجمة عن الطفرة الرقمية الحالية، وإن "جعلتنا أكثر اتصالا فيما بيننا، إلا أنها لم تجعلنا أكثر ارتباطا، ولا أكثر اقترابا بعضنا من بعض".
لقد قضت وسائل التواصل الاجتماعي - في نظره - على البعد الاجتماعي في عمليات الاتصال بين الأفراد، فشعور الفرد بالوحدة والعزلة في تزايد مستمر، على الرغم من ثورة الاتصال الرقمي. ويعقد مقارنة بين تواصل الماضي والتواصل الحاضر، ليخلص إلى حقيقة مفادها أن العالم اليوم يعيش في مجتمع يسوده الاتصال، دون أن يؤلف أفراده لحمة جماعية منصهرة، عكس ما كانت عليه الحال سابقا، حيث كانت الطقوس تسهم في إنتاج الجماعة، ولو بدون اتصال فيما بين أفرادها.
تولى في كتاب "مجتمع الشفافية"، المترجم حديثا إلى اللغة العربية، تفكيك مكنونات "الشفافية"، هذا المصطلح أو الشعار الذي فرض نفسه على كل مناحي الحياة المعاصرة، وصارت له مؤسسات ترعاه، ومؤشرات لقياس منسوبه داخل الدول. وتدريجيا، باتت تمثل قطب الرحى في المجتمع الحديث "الشفافية /الفساد، الشفافية/ حرية المعلومات..."، حتى أضحت أحد الأسس المتينة للديمقراطية.
يرى هان أن الشفافية - أو بتعبيره - حالة "ما بعد الخصوصية"، تخل بحياتنا النفسية ووضعنا الاقتصادي ونظامنا السياسي القائم، فنظام التواصل الشفاف يرمي - في نظره - إلى تحويل الإنسان إلى كائن نمطي، خاضع لنوع من المطابقة القهرية بينه وبين الآخرين. لذا يحذر من اتجاه مجتمع الشفافية، القائم على الاتصالات والشبكات الشاملة، نحو الإجهاز على الغيرية، وعلى الاختلاف كهوية مميزة للذوات.
يولي مجتمع الشفافية استخدام كلمة الحرية بكثافة، حتى يضمن تعرية ذاتك بشكل طوعي، لتجعلك الشفافية كما الزجاج. يزعم دعاة الشفافية أنها تعمل على إيجاد الثقة، غير أن تكريس الشفافية يحول النظام الاجتماعي من الثقة إلى السيطرة، فمجتمع الشفافية - في نظره - ليس مجتمع ثقة بل مجتمع سيطرة وتحكم. فلو أضحى كل شيء شائعا وعاما أو مألوفا، فإن السياسة ستصبح بدون جدوى.
لقد بات بمقدور أي شخص اليوم الحصول على معلومات حول أي شيء. فالجميع بات مكشوفا أو بمعنى أدق شفافا، يقدم أي مستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي مثلا، كل معلوماته الشخصية طواعية، تاركا المؤسسات المهيمنة على وضعه الاجتماعي الجديد، كفرد متبرع ببياناته - أي فرد شفاف - تحديد الطريقة المثلى لاستخدامها، إما ببيع البيانات أو الجذب لعملية استهلاكية أو الطرد من الفضاء التفاعلي.. يتخلى الإنسان عن خصوصيته إذن، ويبدأ في عرض نفسه بنفسه، مغيرا من حالة وجوده كذات غامضة تكتشف نفسها إلى سلعة معلوماتية تباع وتشترى.
واكب هذا الصوت الناقد جائحة كورونا منذ ظهورها، محذرا من التسويق المخادع للنموذج الصيني الذي تلمح الشركات الكبرى المهيمنة إلى ضرورة قيامه في مختلف الدول، لضمان التصدي الأمثل للأوبئة والجوائح. يستعبد هان قدرة الفيروس على هزم الرأسمالية، فبحسبه "لن تحدث الثورة الفيروسية، لا يوجد فيروس قادر على إحداث ثورة، الفيروس يعزلنا ويميزنا، فقط، لكنه غير قادر على توليد شعور جماعي قوي. بطريقة ما، كل منا يهتم ببقائه فقط، إن التضامن الذي ينبني على ابتعادنا عن بعضنا بعضا ليس تضامنا يتيح لنا أن نحلم بمجتمع مختلف وأكثر سلاما وعدالة. لا يمكننا ترك الثورة في أيدي الفيروس، فلنأمل أن تأتي وراء الفيروس ثورة بشرية بأيدينا".
يمتزج النقد أحيانا بالسخرية لدى هذا الفيلسوف، فقد انتقد مثلا طريقة مواجهة الاتحاد الأوروبي لفيروس كورونا، بقوله "نشعر بالعودة إلى عصر السيادة، من الواضح أن إغلاق الحدود هو تعبير يائس عن السيادة، الحاكم هو الذي يقرر حالة الطوارئ، إنه صاحب السيادة الذي يغلق الحدود. لكن هذا عرض فارغ للسيادة، سيكون من المفيد التعاون بشكل مكثف داخل منطقة اليورو، أكثر من إغلاق الحدود بطريقة مجنونة".
يضيف ساخرا في أحد حواراته، أنه من السخافة حظر الأجانب في ضوء حقيقة أن أوروبا هي بالضبط المكان الذي لا يريد أحد أن يأتي إليه، "في أحسن الأحوال، سيكون من الحكمة إصدار مرسوم بحظر مغادرة الأوروبيين، لحماية العالم من أوروبا بعد كل شيء، أوروبا هي مركز الوباء الآن".
يرى الفيلسوف أن ما تشهده الإنسانية من ثورة في الاتصالات، وتدفق في المعلومات الشخصية والعامة على وسائل التواصل الاجتماعي، يفرض وجوبا إعادة كتابة الأنطولوجيا الوجودية لهايدجر، لأن الإنسان المعاصر لم يعد موضوعا يتم التقديم له، بل صار الإنسان موضوعا يعرض نفسه بنفسه، فقد ولدت الرأسمالية نمطا من ثقافة التفرد، يجعل من "الإيجو" مركزا لكل شيء، وهذه الثقافة أسهمت في إضعاف التوجه نحو بقية أشكال التفاعل الجمعي والاحتفاء الطقوسي.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون