FINANCIAL TIMES

خيار الأسود .. الموت بالفيروس أو على يد شرطي

خيار الأسود .. الموت بالفيروس أو على يد شرطي

ضباط شرطة يجثون على ركبهم تضامنا مع المشاركين في تظاهرات "حياة السود مهمة".

خيار الأسود .. الموت بالفيروس أو على يد شرطي

مئات من ضباط الشرط يديرون ظهورهم لبيل دي بلاسيو، عمدة نيويورك. تصوير: شانون ستابلتون "رويترز"

قبل ثلاثة أعوام، وقف الرئيس الأمريكي دونالد ترمب أمام مجموعة من رجال الشرطة - معظمهم من البيض - يرتدون قفازات بيضاء في لونج آيلاند، وقدم لهم نوعا من النصيحة المهنية المهذبة. ناشدهم الرئيس تطبيق القانون والنظام بقوله: "رجاء، لا تكونوا متجاوزين فوق الحد!".
بعد أن أدى قتل الشرطة لجورج فلويد، الرجل الأسود، في مينيابوليس إلى إشعال أسوأ اضطراب مدني في أمريكا منذ نصف قرن، لم يظهر ترمب هذا الأسبوع أي علامة على إعادة النظر في موقفه لحفظ النظام. أعلن الرئيس أنه ينبغي لحكام الولايات "السيطرة" على المتظاهرين، بعد أن حرض على إرسال الجيش إلى شوارع أمريكا.
الغضب الشعبي الهائل بسبب وفاة فلويد في 25 أيار (مايو) يشير إلى أن كثيرا من الأمريكيين يشعرون خلاف ذلك ويريدون إجراء تغييرات في كيفية حفظ النظام في أمة مستقطبة سياسيا ومضطربة عنصريا. يطالب بعضهم بإصلاحات تدريجية، مثل حظر أسلوب الخنق أثناء الاعتقالات، وإنشاء قاعدة بيانات لتتبع عنف الشرطة بشكل أفضل. ويريد آخرون تغييرات شاملة، مثل إضعاف نقابات الشرطة التي تحمي الضباط، وحرمان أقسام الشرطة من الموارد وإعادة التفكير في دورها في مجتمع ديمقراطي.
قالت ديانا ريتشاردسون، العضوة في مجلس ولاية نيويورك، للمتظاهرين الأسبوع الماضي في حديقة جراند آرمي بلازا Grand Army Plaza في بروكلين: "إذا لم يقتلنا فيروس كورونا، فسيقتلنا رجال الشرطة. كلنا نعلم أن شرطة نيويورك خرجت عن السيطرة. ونعلم أنه يجب إجراء إصلاح شامل في قسم الشرطة".
يقول داريك هاميلتون، الأستاذ في جامعة ولاية أوهايو المتخصص في السلالة والأصل العرقي، في حين أن هناك أيضا عنف الشرطة ضد البيض، إلا أن حدوثها الأكثر تكرارا ضد السود "متجذر في مجتمع يوجد تسلسلا هرميا قائما على لون الجلد".
بحسب أليكس فيتال، عالم الاجتماع في كلية بروكلين ومؤلف كتاب The End of Policing: "أقسام الشرطة هذه أصبحت قوية سياسيا بشكل لا يصدق. وهذا ينطبق على دوائر الشرطة نفسها والنقابات التي تمثل أفراد الشرطةالعاديين".

ما من شيء جديد

مجموعة من الصور المتباينة من جميع أنحاء البلاد شهدت خلال الأحداث على العلاقة المعقدة بين الشرطة الأمريكية والجمهور. كان هناك ضباط يمرون على الجسد الضعيف النازف لرجل مسن دفعوه ليسقط على الرصيف، لكن أيضا كان هناك ضباط يضعون هراواتهم أرضا ويجثون على ركبهم تضامنا. كانت هناك بحار من المتظاهرين المسالمين في فترات العصر الصيفية، لكن أيضا عصابات عنيفة تمارس السلب والنهب في الليل، وفي إحدى الحالات، ضربت شرطيا بلوح خشبي على رأسه وأسقطته أرضا.
الصورة المهيمنة بقيت صورة فلويد ـ الذي اعتقل للاشتباه بتمرير ورقة مالية مزورة من فئة 20 دولارا ـ وهو ممدد على الطريق ويلهث لالتقاط أنفاسه لمدة ثماني دقائق و46 ثانية بينما كان شرطي أبيض، ديريك شوفين، يجثو بركبته على رقبته بشدة. ناشده فلويد في مرحلة ما قائلا: "لا أستطيع التنفس"، بينما شوفين، الذي منذ ذلك الحين اتهم بجريمة قتل من الدرجتين الثانية والثالثة، كان يظهر عدم المبالاة. حقيقة أنه تم تسجيل جريمة القتل بواسطة كاميرا تابعة للشرطة في وضح النهار كانت تذكرة أخرى بأن الاعتماد الأخير لمثل هذه الأجهزة ليس ضمانا ضد الإساءة.
قبل ستة أعوام، قال إيريك جارنر عبارة "لا أستطيع التنفس" في ستاتنآيلاند، نيويورك، عندما توفي من نوبة ربو قاتلة بسبب خنق الشرطة له. تم اعتقال جارنر للاشتباه في بيعه السجائر بشكل غير قانوني. بعد أقل من شهر، قتل مايكل براون، المراهق الأسود، بالرصاص في فيرجسون، ميسوري، على يد شرطي أبيض، ما أثار صيفا من الاضطرابات.
تقول كيلي ويلش، عالمة الجريمة في جامعة فيلانوفا: "هذه القضايا تحدث لفترة طويلة منذ وجود دولتنا، وحتى لفترة أطول. ليس هناك شيء جديد في هذا".
حتى بعد حادثة فيرجسون والجدل الوطني بشأن حفظ النظام الذي أثارته، بقي ارتكاب جرائم القتل من الشرطة ثابتا بواقع 100 جريمة في الشهر، وفقا لمجموعة Campaign Zero، التي تهدف إلى استخدام البيانات للحد من عنف الشرطة. قال ديراي ماكيسون، الذي أسس المجموعة بعد وفاة براون، لأخبار ياهو هذا الأسبوع، "نفكر في مجموعة كبيرة من القضايا التي تم تناولها في مجال الحقوق المدنية هذا - الشرطة واحدة من القضايا الوحيدة التي لم تتغير فعلا".
إذا نظرت إلى المدى الطويل، كما يفعل بول شيفيني، فقد تحسن الوضع. كان شيفيني، الكاتب وأستاذ القانون في جامعة نيويورك، يؤرخ عنف الشرطة منذ الستينيات - الوقت الذي لم تكن توجد فيه كاميرات على الجسم وقليل من القيود على استخدام القوة المميتة.
يقول شيفيني، مشيرا إلى التغطية الإعلامية وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي: "انخفض عدد الحالات التي قتل فيها أشخاص على يد الشرطة كثيرا في أمريكا في الأعوام الـ50 الماضية، لكن (كل حالة) الآن أصبحت بارزة أكثر بكثير".
على الرغم من كل الغضب بشأن وفاة فلويد، إلا أن شيفيني ليس مقتنعا على الإطلاق بأن ذلك قد يؤدي إلى الإصلاح. يقول، مشيرا إلى أن العنف الذي أفسد بعض الاحتجاجات قد يدفع كثيرين إلى دعم آراء ترمب: "الجمهور يغير موقفه باستمرار بشأن هذا. ليس من الواضح حتى الآن كيف ستجري الأمور".

أرض الاختبار في نيويورك

لدرجة غير عادية، كثير من الجدل الأمريكي بشأن حفظ النظام حدث في مدينة نيويورك، وكان ويليام براتون - من سكان بوسطن، مع لهجة لإثبات ذلك - في قلب النقاش.
تولى براتون منصب مفوض الشرطة في 1994، في عهد العمدة رودولف جولياني، وتعهد "باستعادة المدينة حيا بعد حي" ويعتقد أن جهاز الشرطة أصبح حذرا للغاية وبيروقراطيا. استخدم براتون الإحصائيات لتحديد مكان حدوث الجريمة واتباع نهج "النوافذ المكسورة" (تنظيف العلامات البارزة للفوضى) لحفظ النظام حيث يقوم الضباط بملاحقة أصغر الجرائم لمنع أكبرها.
بدت الاستراتيجية فعالة: انخفضت جرائم القتل في نيويورك من 2245 في 1990 إلى 318 العام الماضي. أثناء ذلك، المدينة التي كان يسيطر عليها الخوف بدأت تستمتع بمكانتها باعتبارها "المدينة الكبيرة الأكثر أمانا في أمريكا". ذهب براتون إلى لوس أنجلوس، لإصلاح قوة موصومة بالعار بسبب هجوم الشرطة في 1991 على رودني كينج، راكب الدراجة النارية الأسود. ثم طلب رئيس الوزراء ديفيد كاميرون نصيحته بشأن التعامل مع ثقافة العصابات في المملكة المتحدة.
قال براتون لـ"فاينانشيال تايمز" الأسبوع الماضي: "أعتقد أن ما يفاجئ الشرطة هو مقدار المشاعر المعادية لها في البلاد، على الرغم من قيامها خلال الأعوام الـ25 الماضية بخفض معدل الجريمة".
يجادل براتون أن أساليب الشرطة ينبغي أن تكون دائمة التطور، وتجب إعادة تدريب أفراد الشرطة طوال حياتهم المهنية. وقد ذهل عندما علم أن الضباط في مينيابوليس لا يزالون يستخدمون أسلوب الخنق، الذي تم حظره في عدد من المدن.
مع ذلك، بدا متفاجئا من بعض الانتقادات لإجراءات حفظ النظام المفرط في التسعينيات ومزاعم الحجز المفرط الذي رافق مظاهرات الشهر الماضي. "هل حدث بعض هذا؟ حدث بالتأكيد، عندما ننظر إلى الوراء (...) لكن كيف لا تجادل من أجل مزيد من حفظ النظام بينما كانت الجريمة ترتفع على مدى 25 عاما متوالية؟".
ويتساءل كيف يمكن أن يعارض المرء مزيدا من حفظ النظام في مكان مثل شيكاغو التي سجلت 85 حادث إطلاق نار في عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بما في ذلك 15 جريمة قتل يوم الأحد وحده؟
السؤال الذي يطرحه الإصلاحيون بشكل متزايد هو ما نوع حفظ النظام. نهج النوافذ المكسورة، كما يقول عدد كبير من المنتقدين، يشمل إجراء اعتقالات على حساب إشعال العلاقات المجتمعية. ويقولون إنه أصبح عنصريا أيضا.
تقول الأستاذة ويلش: "تظهر الأبحاث أن الجريمة تحدث في كل مكان. لكن إذا حققت الشرطة في الجريمة فقط في المجتمعات الفقيرة التي يسكنها الملونون، فهذا هو المكان الذي ستعثر عليها فيه".
وفقا لمجموعة Sentencing Project، التي تعمل من أجل إصلاح العدالة الجنائية، كان السود يشكلون نحو 13 في المائة من متعاطي المخدرات في الولايات المتحدة في الفترة من 1995 حتى 2005، لكنهم كانوا يمثلون 36 في المائة من المعتقلين بسبب المخدرات و46 في المائة من المدانين بجرائم المخدرات.
في نيويورك، حفظ النظام الناشط وجد تعبيره النهائي في سياسة "التوقيف والتفتيش" التدخلية التي عززها خليفة جولياني، مايكل بلومبيرج، حيث كان يتم اعتقال الشباب السود والذين من أصول إسبانية بشكل غير متناسب وتفتيشهم من قبل الشرطة في محاولة لإزالة المسدسات والأسلحة الأخرى من الشوارع. في 2011، مثلا، أجرى رجال الشرطة في نيويورك أكثر من 685 ألف عملية تفتيش. (بلومبيرج، المهووس بالبيانات، أصر على فعالية السياسة إلى أن قاده ترشحه الأخير للرئاسة عن الحزب الديمقراطي إلى الاعتذار عنها).
في أماكن أخرى، قامت الشرطة باستعداء المجتمعات عن طريق استخدام أدوات عسكرية فائضة باعها لها البنتاجون. كان بعضها معروضا في فيرجسون في 2014، عندما بدت الشرطة مدججة بالسلاح وهي تتجه للسيطرة على بعض الحشود كما لو أنها مشاة البحرية متجهين إلى الفلوجة في العراق. انزعج الرئيس باراك أوباما من تلك الصور لدرجة أنه حظر برنامج البنتاجون - فقط ليعيده ترمب في 2017. قال للضباط في لونج آيلاند: "عندما ترغبون في الحصول على معداتنا العسكرية المستخدمة، يمكنكم القيام بذلك".
يتبنى كثير من قوات الشرطة في الولايات المتحدة الآن مناهج أكثر تقدمية، بما في ذلك مدينة نيويورك، حيث جعل بيل دي بلاسيو معارضة سياسة "التوقيف والتفتيش" محورا رئيسا في حملته الانتخابية الناجحة لتولي منصب العمدة في 2013. ما أثار دهشة كثيرين أنه أعاد بعد ذلك براتون لمدة عامين. خطة العمدة هي أن تفهم الشرطة بشكل أفضل الأحياء التي تخدمها، حتى يتمكن أفرادها من التمييز، مثلا، بين الجرائم التي تسبب الأذى للسكان وتلك التي لا تفعل.
بناء الثقة يحتاج إلى وقت، وقد يكون صعبا عندما تحاول بعض الأقسام إدخال أساليب جديدة أكثر ليونة مع الاستمرار في استخدام الإجراءات القديمة. وليس من الواضح أيضا في نيويورك أن أفراد الشرطة العاديين مقتنعون برؤية دي بلاسيو. مئات من أفراد الشرطة أداروا ظهورهم للعمدة في 2017 عندما تحدث في جنازة زميل مقتول. اتهم مسؤول متقاعد في تطبيق القانون الأسبوع الماضي دي بلاسيو "بوضع (الشرطة) في موقف مستحيل" بإعلان حظر تجول ومن ثم عدم منح أفراد الشرطة الدعم لفرضه.

معاقبة سوء تصرف الشرطة

بخلاف إعادة ابتكار حفظ النظام، يجادل كثير من المراقبين بأن الأولوية الفورية ينبغي أن تكون فرض قدر أكبر من المساءلة. بالنظر إلى الطبيعة المتأصلة للعنصرية في أمريكا - والطرق الخفية التي تتكشف بها في بعض الأحيان - يعتقد بعض الخبراء أن من الأفضل وضع قواعد واضحة حتى تدرك الشرطة أنها ستعاقب على سوء التصرف. يقول الأستاذ هاميلتون: "بعض الأشخاص بحاجة إلى الذهاب إلى السجن".
حتى هذا قد يكون أمرا غير محتمل. استطاعت نقابات الشرطة تجميع قوة كبيرة للغاية إلى درجة جعلت من الصعب اتخاذ إجراءات تأديبية بحق أفراد الشرطة - ناهيك عن فصلهم. يغلب على المدعين العامين الابتعاد عن متابعة الاتهامات الموجهة ضد الشرطة. يقول النقاد إن مجالس المراجعة المدنية، التي يتم تنفيذها كطبقة أخرى من الرقابة، غالبا ما تكون غير فعالة. مجرد الحصول على البيانات والسجلات التأديبية كان عملا مرهقا لمجموعات مثل Campaign Zero.
في نيويورك، استغرق الأمر خمسة أعوام - وضغطا كبيرا من الجمهور - قبل أن يقوم المفوض بطرد دانيال بانتاليو، رجل الشرطة الذي تسبب في وفاة إيريك جارنر. كانت هيئة محلفين كبرى في ستاتن آيلاند قد رفضت سابقا توجيه الاتهام إلى بانتاليو.
في مينيابوليس، من المرجح أن يحاكم تشوفين الآن. قبل وفاة فلويد ورد اسم الضابط في 17 شكوى تتعلق بسوء التصرف خلال حياته المهنية، التي لم يتلق عليها سوى رسالتين من التوبيخ. أظهر تحليل أجرته رويترز أن قوة الشرطة في مينيابوليس فصلت خمسة ضباط فقط في الأعوام الثمانية الماضية، على الرغم من تلقي ما يقارب ثلاثة آلاف شكوى من الجمهور.
تقول الأستاذة ويلش: "من غير المعروف ما إذا كان سيستمر حدوث هذا النوع من المواقف. لكن من دون أي تغيير جوهري، لا ينبغي أن نفاجأ من استمرار حدوثها".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES