FINANCIAL TIMES

الجائحة المستجدة تبرز ملامح اقتصاد حرب جديد

الجائحة المستجدة تبرز ملامح اقتصاد حرب جديد

رفع مستوى الاستعداد لمحاربة الفيروس في أمريكا. (مع الإطار)

في الأيام الحارة في تموز (يوليو) 1938، وسط الضجة الألمانية حول سوديتنلاند في تشيكوسلوفاكيا، استحوذت الحكومة البريطانية بقيادة نيفيل تشامبرلين على مجموعة من الحقول وأعمال الصرف الصحي، بجوار مطار كاسل برومويتش في ويست ميدلاندز.
بالنسبة إلى عملية شراء لم تجذب كثيرا من الانتباه، فسيكون لها تأثير كبير في الأحداث العالمية. خلال العام التالي، ومع إنفاق نحو أربعة ملايين جنيه استرليني من المال العام - وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت - تم تحويل هذا الموقع غير اللافت للنظر إلى معمل تصنيع ضخم تحت رعاية مخطط "مصانع الظل" في بريطانيا.
كانت الفكرة وراء الخطة هي تحفيز إعادة التسلح، من خلال توسيع قدرة الدولة على صنع طائرات عسكرية تتجاوز تلك التي كان القطاع الخاص راغبا أو قادرا على تمويلها.
سيتم بناء المصانع بأكملها قبل الطلب على إنتاجها. كانت قلعة برومويتش واحدة من عدد من هذه المرافق المنتشرة في جميع أنحاء الدولة.
في البداية تحت إدارة شركة ويلسلي، وفي وقت لاحق صارت شركة فيكرز لصناعة الطائرات، توسع المصنع الممول من القطاع العام لتوظيف 12 ألف شخص، مع أخذ أول طلباته في صيف عام 1939.
عندما توقف الإنتاج أخيرا في تموز (يوليو) 1945، كان قد صنع أكثر من نصف 20 ألف طائرة مقاتلة من طرازسبيت فاير صنعتها بريطانيا، إلى جانب المئات من قاذفات لانكاستر وساعدت على تأمين بقاء بريطانيا على قيد الحياة.
في الأسبوع الماضي، ظهر مصنع كاستل مرة أخرى في الأخبار. لم يعد موقعا لتصنيع الطائرات بل منشأة إنتاج لشركة صناعة سيارات جاكوار لاند روفر، وأعلن أصحابه أن عمال المصنع البالغ عددهم 1900 شخص، إلى جانب آخرين على مواقعها الخمسة في بريطانيا، سيوقفون عن العمل حتى 20 نيسان (أبريل) المقبل على الأقل.
وقالت الشركة إنها تعمل على "تقليص انتشار فيروس كورونا"، مضيفة أنها "ستعمل من أجل عودة منظمة للإنتاج بمجرد أن تسمح الظروف بذلك".
في الأيام الأخيرة، استدعى وزراء حكومة بريطانيا روح التعبئة في زمن الحرب، داعيا لبذل جهد وطني كامل من أجل وقف تقدم فيروس كورونا. تحدث رئيس الوزراء بوريس جونسون عن إدارة "حكومة زمن الحرب" باتخاذ خطوات "لم يسبق لها مثيل منذ الحرب العالمية الثانية"، بينما دعا مات هانكوك وزير الصحة إلى "جهد وطني عملاق واحد" على قدم المساواة مع الوقت، "عندما كانت مدننا تقصف بالطائرات". الوزراء في دول أخرى نشروا خطابات مماثلة.
مع ذكرياتها عن التضحية الجماعية التي أدت إلى الانتصار النهائي، تلوح الحرب العالمية الثانية بشكل كبير في الوعي الوطني البريطاني.
كما يشير مصير قلعة برومويتش، فإن "التعبئة" المطلوبة للتغلب على فيروس كورونا، قد يكون لها شكل وإيقاع مختلفين عن تلك الأحداث البعيدة.
يقول دونكان ويلدون، وهو مؤرخ اقتصادي: "كان التحدي الاقتصادي الرئيس للحرب العالمية الثانية هو كيفية تعبئة الموارد وتوجيهها. تحدياتنا الحالية هي عكس ذلك، حيث إنها تدور حول كيفية إدارة واقع تفكيك الحشود من أجل وقف انتشار الفيروس".
الاقتصادي جون ماينارد كينز تناول في كتابه الصادر عام 1940 بعنوان: "كيف نسدد تكاليف الحرب"، ضرورة أن "يكون ناتج الحرب في بريطانيا كبيرا بقدر معرفتنا بكيفية تنظيمه" وأن نترك "بقايا محددة متاحة للاستهلاك المدني" فحسب.
كان هذا يعني أن الدولة تستحوذ على نصيب الأسد من الموارد من أجل الإنتاج الحربي، واتخاذ إجراءات مثل زيادة الضرائب للحد من الطلب الاستهلاكي.
كانت هذه الخطوات ضرورية بسبب ارتفاع دخول الأسر بشكل حاد نتيجة للعمالة الكاملة في زمن الحرب. كان يخشى أن هذا قد يغري المنتجين بتحويل القدرة الإنتاجية من أجل صنع السلع الاستهلاكية.
لاحظ كينز: "لا يمكننا السماح لمسألة تتعلق بالمال في جيب الجمهور أن يكون لها تأثير كبير في المبلغ الذي يسمح لنا باستهلاكه".
مع توجيه الحكومة الآن لمعظم شركات البيع بالتجزئة للإغلاق، وإبطاء كثير من الشركات طواعية الإنتاج إما بسبب تراجع الطلب على منتجاتها أو الرغبة في منع العدوى، هناك قيود قليلة على القدرة (باستثناء المرض) لوقف الوزراء عن حشد الموارد التي يحتاجون إليها لمكافحة الفيروس.
خارج بعض المناطق ينخفض طلب المستهلكين على الغذاء. يقول ويلدون: "كنا بحاجة إلى توجيه مركزي في زمن الحرب لمنع شركات صناعة السيارات من إنتاج السيارات وحملها على صنع طائرات سبيت فاير.
الآن إذا كانت الحكومة تريد من شركات مثل جيه سي بي أو دايسون تحويل الإنتاج إلى إمدادات طبية، فيجب أن يكون ذلك ممكنا باستخدام العقود العادية. بعد كل شيء، من غير المحتمل أن تبيع شركة جي سي بي كثيرا من آلات الحفر خلال الأشهر المقبلة".
يتمثل التحدي الأكبر للحكومة البريطانية - ولجميع الدول الأخرى التي تعاني حاليا الوباء - في التأكد من أن استراتيجية تفكيك الحشود فعالة.
من دون ذلك، فإن آمالها في احتواء الفيروس ستذهب سدى. أعلن ريشي سوناك، وزير المالية، عن إجراءات بعيدة المدى مصممة لتحمل تكاليف الإبقاء على كثير من القوى العاملة دون عمل، ودون أن تؤدي إلى عمليات تسريح جماعية.
لتشجيع هذا الشكل من السبات الاقتصادي، تعهدت الحكومة بدفع ما يصل إلى 80 في المائة من أجور العمال المتضررين لفترة مفتوحة. وهو إجراء يمكن أن تكون له عواقب تغير وجه المالية العامة. تشير التقديرات إلى أنها قد تكلف الحكومة نحو 3.5 مليار جنيه استرليني لكل مليون عامل لمدة ثلاثة أشهر.
ما وراء هذا المخطط، فإن الدعم الإضافي للأشخاص الذين يتلقون إعانات الرعاية الاجتماعية يقدر بنحو سبعة مليارات جنيه استرليني. على عكس زمن الحرب، سيحدث هذا في وقت تنخفض فيه إيصالات الضرائب.
في الإجمالي، يمكن لهذه الإجراءات وغيرها أن تلقي أعباء على مالية بريطانيا التي قد تقترب من فترة 1939-1945، عندما تجاوز عجز الميزانية 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا بين عامي 1941 و1945، وبلغ ذروته عند 26.7 في المائة في عام 1942.
يقول ويلدون: "يعتمد الأمر على المدة التي يستمر فيها الفيروس، لكن العواقب على المالية العامة قد ينتهي بها الأمر إلى أن تبدو مألوفة تماما لشخص سبق له تمويل الحرب".
هناك مجال آخر حيث توجد أصداء للصراعات الماضية، وهو في النقاش حول التوازن بين الإجراءات الطوعية والإلزامية. واجهت حكومة جونسون انتقادات بسبب ترددها الأولي في وضع القواعد، وعلى الأخص في الأمر بإغلاق الشركات أو المدارس غير الأساسية لمنع انتشار العدوى.
وهي لم تتدخل للسيطرة على توزيع المواد الغذائية والمواد الأساسية أو أسعارها، على الرغم من الأدلة على الشراء نتيجة الإحساس بالذعر. وقد ترك الأمر لمحال السوبر ماركت لتحسين استجاباتها، على الرغم من قواعد المنافسة التي تمنع التعاون بينهما. تم تخفيفها الأسبوع الماضي للسماح لها بمشاركة البيانات ومستودعات التوزيع.
تم تطبيق إجراءات الإبعاد الاجتماعي بشكل طفيف، على الرغم من أن القواعد التي تم الإعلان عنها قد تشير إلى تغيير، مع احتمال فرض قانون الطوارئ الآن.
تحدث جونسون كثيراعن ارتباطه بالحريات البريطانية، وحث الجمهور على أخذ زمام المبادرة والقيام بالشيء الصحيح.
ووفقا لدانيال تودمان مؤلف كتاب "حرب بريطانيا" وهو تاريخ اجتماعي للحرب العالمية الثانية، فإن هذا يذكرنا بخريف عام 1939، عندما ناقشت حكومة تشامبرلين ما إذا كان سيتم استحداث تقنين للموادالغذائية.
يقول: "كان الجدل يدور حول مدى سرعة إدخاله وما إذا كان سيتم الانتقال بسرعة إلى نظام إلزامي. كان كثير من المحافظين قلقين، إلا أن تشامبرلين لم يكن يفضل دورا كبيرا للدولة في زمن الحرب، فيما كان تشرشل معارضا للغاية. لقد شعر أن ذلك سينظر إليه على أنه علامة ضعف وتهديد للحريات التقليدية."
إذا كانت الحرب العالمية الثانية دليلا، فإن الإكراه سيزداد بسرعة إذا استمر الإغلاق الحالي. في الواقع، وفقا لمارك هاريسون، الأستاذ الفخري للاقتصاد في جامعة وارويك، قد يتمتع هذا بدعم شعبي واسع النطاق.
ويجادل قائلا: "المجتمعات التي تتعرض للضغط ترحب بوضوح بالقواعد والعقوبات الواضحة"، مشبها ذلك بشكل من أشكال التعبئة الأخلاقية.
شهدت الحرب العالمية الثانية انتشارا لهذه اللوائح، مع عقوبات شديدة خاصة مخصصة للمخالفات مثل النهب أو انتهاكات التعتيم. تمت محاكمة أكثر من مليون مواطن بسبب الانتهاكات، وكثير منها يبدو تافها، وفقا لهاريسون.
وكان من بينهم شخص سيئ الحظ تم القبض عليه خلال هجمات الغارات على المدن البريطانية، بعد أن استخرج زجاجة من أنقاض حانة كان يبحث من خلالها وسط الجثث عن الناجين من الانفجار.
ومع ذلك، على الرغم من شراسة هذه القواعد، لم يكن الجمهور مستاء منها. لقد شبهها كينز بـ"قواعد الطريق"، التي كانت تتغلب على مشكلة العمل الجماعي المتمثلة في التزام الجميع باللوائح المزعجة التي كانت بلا جدوى إذا لم يمتثل الآخرون.
ورفض التهديد بالحرية، ووصف فرضها بأنه الوسيلة "المثالية" لـ"العمل الاجتماعي، حيث يمكن حماية الجميع بجعل قاعدة معينة من السلوك عالمية".
تركز معظم المقارنات بالأزمة الحالية على الحرب العالمية الثانية. كما يشير ويلدون، لقد كان هذا صراعا كانت بريطانيا مستعدة له جيدا نسبيا.
يقول: "طوال عدة أعوام قبل عام 1939، كان بإمكان الجميع أن يروا أن النزاع محتمل، لذا كان هناك وقت للاستعداد. قضى موظفو الخدمة المدنية أعواما في العمل على الدروس المستفادة من الحرب الأولى، لذا عندما جاءت الحرب الثانية كانت لديهم حزم من الخطط المعدة يمكنهم الرجوع إليها".
أزمة فيروس كورونا ذات طبيعة مختلفة. لا يقتصر الأمر على أن بريطانيا ليس لديها حالات طوارئ تفصيلية، حيث إنها تجاهلت إلى حد كبير التحذيرات بشأن المخاطر التي تمثلها الأوبئة - على عكس بعض الدول الآسيوية التي تأثرت بالأوبئة مثل سارز وإنفلونزا الخنازير.
والمثير للدهشة أيضا ذلك النطاق الهائل للتباعد المفاجئ، الذي أثار عداوة بين الدول وأعاق الحركة عبر الحدود وعطل التجارة حول العالم. وبهذا المعنى فإنه يشبه إلى حد كبير الحرب العالمية الأولى، التي سقطت على الجمهور وسط بيئة صافية على ما يبدو.
مثلما حدث في عام 1914، كانت أكبر الخسائر الفورية في الأسواق المالية.
في مذكراته عن الحرب العالمية الأولى، وصف ديفيد لويد جورج، الذي أصبح رئيس الوزراء في وقت لاحق، ولكنه كان وزير المالية في بداية الصراع، كيف تحطم دور لندن كممول للتجارة العالمية في غضون أيام.
تقطعت الأعمال التجارية عبر الحدود، ما جعل الدائنين غير قادرين على دفع ديونهم وأصبحت المصارف محملة بأصول محتملة للتخلف عن السداد.
الصدمة الأخيرة تحمل بعض التشابه مع تلك الفترة. تراجعت الأسواق بسبب عدم اليقين بشأن مدة وطبيعة الاضطراب. هل ستنتهي بسرعة؟ هل هي مسألة سيولة؟ أم أن هناك شكوكا حول ملاءة المشاركين؟
الاستجابة النهائية لا تزال غير مؤكدة. العالم مشدوه بذكريات عام 2008، والمحفزات القوية التي كانت تقدم إلى الأسواق على شكل مشتريات ضخمة من الأصول من قبل البنوك المركزية.
الآن يكرر عدد من البنوك المركزية، بما في ذلك بنك إنجلترا، تلك الإجراءات. البعض يعتقد أن السلطات يجب أن تنظر أكثر إلى عام 1914، حيث ركزت بريطانيا ببساطة على الإبقاء على عمل الأسواق وليس على المستوى الذي يجب أن تتداوله.
يقول بول تاكر، رئيس مجلس المخاطر النظامية ونائب محافظ بنك إنجلترا السابق: "في الأسواق، يجب أن يكون الهدف الآن لمحافظي البنوك المركزية هو إبقاء الأسواق الأساسية مفتوحة بدلا من محاولة إبقائها مرتفعة، عبر شراء كل شيء ببساطة".
ويجادل بالقول إن الهدف لا يجب أن يكون تحفيز الاقتصاد، الذي تحاول الحكومة على أي حال تضييقه من خلال إجراءاتها لقمع الفيروس.
بدلا من ذلك ينبغي تجنب أن يقع الاقتصاد في دوامة وأن تضمن الحكومة أن يتمكن المواطنون من العيش الكريم، وألا تتعرض أعمال الشركات للدمار بشكل غير ضروري.
"إذا لم تستطع الأسواق العمل، فإن وظيفة البنك المركزي هي ضمان تمويل الحكومة. لا ينبغي أن تبدأ من هناك. ينبغي أن تحاول أن تكون محفزا وألا تشتري تلقائيا شيئا، طالما كان لاري فينك الرئيس التنفيذي لمجموعة بلاك روك للاستثمار وآخرون يشترونه".
لا يمكن لأحد أن يعرف إلى متى ستستمر أزمة فيروس كورونا.
من دروس السياسة في زمن الحرب أن الحكومات لا يمكنها ببساطة أن تطلب تضحيات لا نهاية لها. في مرحلة ما، يجب على السياسيين أن يديروا عقولهم نحو الثمن الذي يدفع مقابل كل ذلك الدم والعرق والدموع.
إذا استمر الفيروس، يقترح تودمان، أن هذا قد ينطوي على نوع من التعاقد بين الأجيال، لإفادة الشباب الذين يقع على أكتافهم كثير من المديونية الوطنية المتضخمة.
ويقول: "الأمر الواضح هو مزيج من أسلوب الحياة المحسن، والعمالة الأكثر استدامة وتجنب كارثة المناخ".
قد تكون هذه فرصة سياسية. بعد كل شيء، لم يكن تشرشل بل حزب العمال في عهد كليمنت أتلي، هو الذي استغل إمكانيات تقرير بيفريدج عام 1942 حول الرفاهية الاجتماعية، حيث مهد الطريق لإنشاء خدمة الصحة الوطنية.
يقول تودمان: "سيكون من اللطيف رؤية بعض التسويات الطموحة لما بعد الوباء، لكنني لست متفائلا بشأن قدرة أي من قادتنا على تحقيق ذلك".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES