ألمانيا تقود تحول الطاقة عالميا بالتخلي عن الفحم
داخل نطاق ضيق حالك السواد لقاطرة حديدية معلقة، كان ستيفان روب باتش على متنها في رحلة تستغرق سبع دقائق، للنزول إلى أنفاق منجم تسول فيرآين للفحم، الذي يقع على بعد نحو كيلومتر تحت مدينة إيسن الألمانية.
إن مهمته هي الإشراف على مضخات المياه السبع التي ظلت هناك، منذ إغلاق الموقع في 1986، ويتم استنساخها الآن في مناجم الفحم التي تقطع وادي الرور، وهو قلب البلاد الصناعي المتراجع.
هذه الآلات الغريبة القديمة التي يبلغ وزنها عشرة أطنان، والفريق المكون من 500 فرد، الذين يديرونها، هي كل ما يقف بين سكان المنطقة البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة، والمخاطر الدائمة الناتجة عن 150 عاما من التعدين: تلوث مياه الشرب على مستوى السطح والفيضانات واسعة النطاق. بيرند تونجيس، وهو عامل منجم سابق عمل في الصناعة نحو 40 عاما قال: "هذه المهمة لا سابقة لها في التاريخ الاقتصادي. لقد استخرجنا عشرة مليارات طن من الفحم الصلب من الأرض، وبالتالي فإن لدينا مشكلات في المياه الجوفية".
تونجيس يدير الآن مؤسسة آر أيه جي RAG، وهي أداة استثمارية فريدة جمعت حتى كانون الثاني (يناير) الماضي، 18.5 مليار يورو من الأصول لتضمن تمويل صيانة المناجم المغلقة في
مناطق الرور وسار وإيبنبورن إلى الأبد، بتكلفة تبلغ نحو 300 مليون يورو في العام.
جيوبها العميقة لم تفلت من انتباه المشرعين الألمان، الذين يرغبون في رؤية ثروة المؤسسة، وهي تستخدم لتحفيز الانتعاش الاقتصادي لحقول الفحم السابقة.
لقد أسست قبل 13 عاما استعدادا لقانون تخلي ألمانيا عن تعدين الفحم الصلب "أنثراسايت" عام 2018، كما تجذب المنظمة الواقعة في ولاية شمال الراين وستفاليا انتباه صانعي السياسة في جميع أنحاء العالم.
"نحن على اتصال بالفعل مع الصين مثلا، لإغلاق بعض مواقع تعدين الفحم فيها"، حسبما قال تونجيس.
مؤسسة آر أيه جي، واحدة من أغنى 21 ألف مؤسسة لعبت دورا مركزيا في أنموذج اقتصاد ألمانيا بعد الحرب، بيد أنها بدأت تصبح الآن مخططا لكيفية إدارة تحول الطاقة العالمي، على حد قوله. بعض المجموعات مثل "بوش" أو "كروب" تمتلك أكبر الشركات الألمانية أو جزءا منها.
بيد أن شركة الاستثمار الواقعة في إيسن لديها تفويض فريد من نوعه: ضمان ألا تقع التكاليف القديمة لصناعة الفحم على عاتق دافع الضرائب الألماني.
بدلا من ذلك، يتم تمويلها من خلال أرباح الأسهم الموزعة من حصة المؤسسة المسيطرة، ضمن شركة إيفونيك العملاقة للكيماويات المحلية، وحيازات أصغر في أكثر من 20 ألف شركة في جميع أنحاء العالم.
مؤسسة آر أيه جي تمتلك أيضا شركة فرعية كبيرة للأسهم الخاصة، وتستثمر في العقارات في نيويورك وديترويت.
"لا يمكن الوفاء بالالتزامات الأبدية من خلال أنموذج أعمال عادي"، بحسب مارك إيوليريتش، أستاذ إدارة الأعمال في جامعة دويسبورج إيسن.
وأضاف، "آلاف الأشخاص في حوض الرور فقدوا وظائفهم بسبب قانون التخلي عن الفحم، كما يجب أن يكون لدينا تغيير هيكلي، نحن بحاجة إلى المال للانتقال من الصناعات الملوثة إلى الصناعات النظيفة" على حد تعبيره.
في ذروتها عام 1957، كانت القارة الأوروبية أكبر منطقة منتجة للفحم حينها من حيث الحجم، وكانت توظف نحو 600 ألف عامل منجم.
في ما يشار إليه غالبا باسم "الوداع الطويل"، أصبحت صناعة الفحم في ألمانيا مثل غيرها في أوروبا غير مربحة في سبعينيات القرن الماضي.
لتجنب الاضطرابات الاجتماعية، تم دعم الصناعة حتى عام 2018.
قال تونجيس: من المهم أن "تتم إدارة كل شيء بطريقة مرعية اجتماعيا"، على عكس بريطانيا التي شهدت في 1984-1985 إضراب عمال المناجم المرير، بسبب إغلاق المناجم.
إن "مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء آنذاك وآرثر سكارجيل رئيس النقابة العمالية فعلا العكس تماما"، على حد قوله. "إذا زرت تلك المنطقة في إنجلترا اليوم، سترى أنه ما زالت هناك أرض محروقة". مجتمعات التعدين السابقة في الرور بالكاد تزدهر. جيلسنكيرشن المدينة الواقعة في قلب منطقة التعدين في شمال الراين ويستفاليا، تعاني واحدة من أسوأ معدلات فقر الأطفال في ألمانيا، حيث تبلغ نحو 40 في المائة.
في أجزاء كثيرة من الرور، متوسط العمر المتوقع يعد أقل والديون البلدية أعلى بكثير من متوسط البلد، حسب تقرير صادر عن مؤسسة فريدريش-إيبرت العام الماضي.
مؤسسة آر أيه جي بدأت في تحويل تركيزها الاستثماري أقرب إلى الوطن.
من خلال شركة تابعة، جلبت شركة ريثنك روبوتيكس ومقرها بوسطن إلى الرور. كما أنها تستثمر عشرات الملايين من اليوروات في مشاريع ناشئة وثقافية عبر وادي الرور، بما في ذلك مسرح كولوسيوم البالغ من العمر 120 عاما في إيسن، الذي سيتم تحويله إلى حاضنة ناشئة ذات طابع برليني.
في الشهر الماضي، ساعدت المؤسسة على إبرام صفقة بقيمة 17 مليار يورو لشراء أعمال ثايسن كورب المختصة في صنع المصاعد، في ما يمكن أن يتحول ليكون أكبر صفقة أسهم خاصة في أوروبا، لمساعدة التكتل المتعثر على دعم أنشطته المتبقية وتمويل التزامات معاشاتها التقاعدية. "إنها ليست سياسية بالكامل"، حسبما قال البروفيسور أوليريتش، واصفا قرارات الاستثمار التي تتخذها مؤسسة آر أيه جي في إشارة إلى أن هيكو ماس وزير الخارجية وأولاف شولتز وزير المالية من بين أمنائها. الانعطاف الأخير في قوتها المالية جعل المؤسسة مركز الاهتمام في برلين، حيث يستعد المشرعون لإجراء تغيرات زلزالية على أكبر اقتصاد في أوروبا.
بعد إغلاق آخر منجم للفحم الصلب منذ عامين تعمل ألمانيا على إيقاف تشغيل محطاتها النووية الست المتبقية، وتهدف إلى التخلص التدريجي من صناعة الفحم البني "اللجنيت"، التي توفر عشرات الآلاف من الوظائف، بحلول عام 2038. حتى صناعة السيارات الأساسية التي توفر نحو ثلاثة ملايين وظيفة باتت معرضة للخطر بسبب التحول إلى السيارات الكهربائية.
المرشحون في السباق لقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، بزعامة أنجيلا ميركل، بمن فيهم المرشح الصاعد أرمين لاشيت، نشأوا جميعا في ولاية شمال الراين وستفاليا، وعارفون جيدا بصندوق الحرب الذي يقدر بمليارات اليوروات في إيسن.
تونجيس مصر على أن المؤسسة لن توظف أصولها بناء على طلب من المسؤولين المنتخبين.
بالنسبة إلى المستثمر الألماني على المدى الأطول أجلا، فإن تدخلات الساسة ليست سوى مصدر إلهاء مؤقت. قال الرجل البالغ من العمر 65 عاما: إن "الأبدية وقت طويل".