ثقافة وفنون

«أدب التوقعات» .. روايات قرأت فنجان المستقبل

«أدب التوقعات» .. روايات قرأت فنجان المستقبل

استشراف المستقبل بناء على متغيرات الواقع.

«أدب التوقعات» .. روايات قرأت فنجان المستقبل

أثارت رواية الكاتب الأمريكي دين زاي كونتز "عيون الظلام" The Eyes of darkness، جدلا كبيرا طيلة الأسابيع الموالية لانتشار وباء كورونا في أصقاع العالم، بتصنيفها في خانة أدب التوقع أو الأدب الاستباقي. فالرواية التي تعود لعام 1981، تتحدث عن تفشي فيروس مميت في الصين باسم "ووهان 400"، بأعراض ومواصفات مشابهة لما يشهده العالم حاليا. ينسى أنصار هذه الفكرة معلومة في غاية البساطة والأهمية، تتعلق بإدخال كونتر تعديلات على تفاصيل مهمة في المتن الروائي؛ فاسم الفيروس في نسخة الثمانينيات كان "غوركي 400"، ثم تحول في نسخة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وصعود الصين إلى "ووهان 400"؛ ما يجعل الرواية أقرب إلى الحرب الأيديولوجية من النبوءة الأدبية.
لا ينفي هذا وجود أعمال أدبية تنبئية خالدة، تخطت حدود تكوين الوعي بإعادة البناء الذاتي والفكري؛ من خلال تجسيد الحياة بجمالها وآلامها وتفاصيلها، نحو رسالة استشراف المستقبل بناء على متغيرات الواقع، إنه الأدب الذي يقرأ بعمق الحاضر بكل أبعاده وتفاصيله، بغية بناء قدرة على "النبوءة بالمستقبل"؛ فالنظرة الثاقبة والواعية، التي يمتلكها الأديب في قراءة مجريات الواقع، تقوده نحو تطوير مهارة القدرة على التنبؤ بالحدث قبل وقوعه. والتطلع للخبايا في المستقبل، قد يكون من باب التحذير منها أو التبشير بها، قبل أن تثبت الأحداث لاحقا مدى واقعيتها.
انتبه عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز؛ الأب الروحي للاتجاه الراديكالي في السوسيولوجيا المعاصرة، إلى هذه القدرة (الموهبة) لدى بعض الأدباء، فاهتدى إلى الاعتماد في عديد من الدراسات التي أنجزها؛ خصوصا المتعلقة بالطبقات الاجتماعية، على أعمال كبار الروائيين في الساحة العالمية. فقد صرح ذات حوار أنه كرس كثيرا من وقته للكاتب الفرنسي أونوريه دي بلزاك، باعتباره "أحد الروائيين، الذين تتجسد في أعمالهم أكثر التعريفات انتشارا للواقع البشري، فهو يمتلك خيالا علميا اجتماعيا، ويفعل كثيرا لاستيفاء متطلباته".
بعيدا عن الأدب الموجه، على غرار رواية "عيون الظلام، تحفل الخزانات العالمية والعربية؛ على حد سواء، بأعمال إبداعية تنبأت بوقائع في المستقبل؛ على الصعيد السياسي أو العلمي أو الاجتماعي أو الثقافي أو البيئي .. تبينت صحة وصدقية تلك التوقعات مع مرور الزمن، لدرجة قد يظن فيها القارئ أن الكاتب عايش الوقائع وليست أحداثا من نسج خياله".
ربما يكون الكاتب الإيرلندي جوناثان سويفت، الذي عاش في القرنين الـ17 و18 أول أديب يحمل عمله نبوءة علمية؛ قبل نحو قرن ونصف، حين تحدث في مؤلفه "رحلات جرليفر" (1726)؛ التي تضم أربع رحلات إلى بلدان نائية غريبة، عن أن للمريخ قمرين يدوران حوله. تمكن الفلكي الأمريكي أساف هول، عام 1877، من دخوله التاريخ بعد اكتشاف قمرين يدوران حول كوكب المريخ، أطلق عليهما تسمية "فوبوس" و"ديموس".
يتعاطى قراء راوية "من الأرض إلى السماء" (1865)، للروائي الفرنسي جول جابيريل فيرن، حتى عهد قريب جدا مع أحداثها من باب الخيال العلمي، فكاتبها صاحب باع طويل في أدب المغامرات. لكن هذا الوضع انقلب عام 2010، أي بعد مضي 145 سنة، حين استخدمت الألواح الشمسية؛ التي ادعى فيرن في روايته أنها مساعدة على الإبحار الفضائي، على أجسام المركبات الفضائية لزيادة سرعة التحليق، من خلال تحويل الضغط الناتج عن الحرارة لدفعها بأقصى سرعة.
بعد ذلك بأعوام أصدر الكاتب الاشتراكي الأمريكي إدوارد بيلامي أشهر أعماله بعنوان "النظر إلى الخلف" (1887)، التي تدور أحداثها عن بطل يدخل في غيبوبة اصطناعية، ثم يستعيد وعيه بعد 100 عام لينقل لنا التغيرات الكبيرة، التي شهدها العالم أثناء سباته، ومن جملة ما يثير استغراب الرجل – وكان نبوءة بيلامي – استخدام البشر لبطائق الائتمان عوضا عن العملات النقدية.
دخلت رواية "عام جديد شجاع" (1932) للكاتب ألدوس هكسلي لقائمة أفضل رواية عبر التاريخ، فقد استطاع الروائي البريطاني المخضرم من خلالها قراءة فنجان الحياة في المستقبل، فتحدث عن عالم شديد التحرر، بعدما وصل العلم مرحلة مخيفة، فرض فيه نفسه في كل حركات وسكنات الإنسانية. فهي لم تعد بحاجة إلى الزواج للتكاثر، بعدما استبدلت الأرحام بالأوعية الخاصة. وصارت الآليات متوفرة في كل الأمكنة لخدمة الإنسـان، فكل الحاجيات متوفرة بضغطة زر، حتى الحزن في هذا العالم مقدور عليه بتعاطي المخدرات.
نجد في القائمة ذاتها، رواية الإنجليزي هربت جورج ويلز الموسومة بعنوان "شكل الأشياء في المستقبل" (1933)، التي سلط فيها الضوء على المستقبل السياسي للعالم؛ فتحدث عن حرب مدمرة ووباء عالمي يتلوه بحث عن دولة عالمية. ورائعة الأديب البريطاني جورج أورويل 1984، التي كتبت عام 1949، محذرة من مستقبل سياسي غارق في الاستبداد والجهل. بريطاني آخر حقق التميز إلى جانب زملائه، إنه جون برانر بعمله "الوقوف في زنجبار" (1968)، حين كتب واصفا حياة 2010، متنبئا بظهور الأجهزة الإلكترونية والمحادثات المرئية والمثليين... وحتى انتشار حوادث إطلاق النار الجماعي.
كانت للروائيين العرب بصمة نوعية مبكرا في هذا الجنس الأدبي، فقد كان الفضل لبعضها في نقل أصحابها إلى رحاب العالمية. كما هو الحال بالنسبة إلى الأديب السوادني الراحل الطيب صالح برائعته "موسم الهجرة إلى الشمال" (1966)، حين أشار إلى انتشار الأفارقة بشكل كبير في أوروبا. شهدت السنة ذاتها ، كتابة الأديب المصري نجيب محفوظ لروايته "ثرثرة فوق النيل"، تنبأ فيها بالهزيمة التي أوشكت على الوقوع عام 1967. وقد عد قطاع عريض من القراء أنها تحمل إسقاطات كبيرة على نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأنها كانت تحذر من خطر هزيمة محتملة. للروائي الجزائري الطاهر وطار مساهمة نوعية بروايته "الشمعة والدهاليز"، التي تحدث فيها عن توقعه لسيناريو العشرية السوداء في البلاد.
قد يطول المقام في سرد الأعمال الروائية ذات النزعة التنبؤية، منذ كتابتها أول مرة، دون أن يلحقها تعديل أو تغيير على ضوء مستجدات الواقع، كما جرى مع رواية "عيون الظلام". فالاستبصار الذي ينبغي التقيد به كشرط أساسي في هذا الجنس الأدبي، يبقى إثباته أو نفيه بيد الزمن فقط، وليس بيد كاتبه الذي يعمل على تعديل النص في كل نسخة (طبعة)، حتى يدعي تحقيق النبوءة والاستشراف.
 

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون