ثقافة وفنون

الأدب النسائي .. تميز أم هرب؟

الأدب النسائي .. تميز أم هرب؟

"الأدب النسائي بدأ بالمطالبة بحق المرأة في أن تكون رجلا، ثم صار يطالب بحقها في أن تكون امرأة"




خلد العالم نهاية الأسبوع الماضي، احتفالات اليوم العالمي للمرأة، تحت شعار "أنا جيل المساواة: إعمال حقوق المرأة"، وصادف هذا العام الذكرى الـ25 لإعلان ومنهاج عمل بكين، الذي تقدمه الأمم المتحدة كخريطة طريق بشأن تمكين المرأة في كل أنحاء العالم، ما جعل هذا المطلب يتردد من جديد في مناسبة هذا العام، ومن أغرب ما جاء على لسان مناضلة "نسوية"؛ مطالبتها بالعمل على التمكين الثقافي للمرأة، فالأدب النسائي لا يزال هامشيا، ولم يأخذ نصيبه في الساحة الثقافية.

يثبت أصحاب هذه الدعوات من حيث لا يدرون فكرة قصور المرأة، بل إن الكلام عن "الأدب النسائي" في حد ذاته، يبقى محل عدة أسئلة حول ماهيته؛ هل يرد في مقابل "الأدب الرجالي"، ليكون التصنيف؛ وفق هذا المعيار، على أساس الجنس، حيث يتسع مجاله ليضم كل ما كُتب بأقلام نسائية، أم أن التحديد يكون على أساس الموضوع؛ فيضيق نطاقه حتى ينحصر فقط في الكتابات التي تتعاطى مع قضايا المرأة ومشكلاتها، دون اعتبار لجنس كاتبها؛ ذكرا كان أم أنثى؟

تباينت مبررات المدافعات عن هذا الطرح، بين من يربطن ظهور المفهوم بالرغبة في تأكيد خصوصية الأدب النسائي في حقل الإبداع، وأخريات يؤكدن أن إطلاقه جاء تعبيرا عن رفض الهيمنة الذكورية التي غيبت صوت المرأة. تنسى هؤلاء النسوة أن الترافع من أجل تثبيت مثل هذه التصنيفات، يكون على حساب مساعي المساواة والتمكين، لأنه يكرس ضمنيا السطوة الذكورية بفرض العزلة والتهميش، وحصر المرأة في دوائر، تعمل جاهدة على تفكيكها والخروج منها.

تعد الكتابة تجربة إنسانية من الطراز الأول، بصرف النظر عن جنس صاحبها، فالأدب عمل إنساني أصيل، له خصوصية ترتبط بزاوية النظر إلى الأشياء من ناحية، وتنطبق على كتابات الرجل والمرأة على حد سواء من ناحية أخرى. صحيح، ثمت أوضاع تكون فيها المرأة أقدر على التعبير من الرجل، وفي مواقف أخرى يحدث العكس، كما أن هناك كتّابا أمثال الشاعر طاغور، الذي تنساب رقة وحنان الأمومة في شعره، والروائي يوسف إدريس الذي أبدع في وصف عوالم النساء، والمبدع إحسان عبدالقدوس الذي كتب بلسان المرأة.. رغم أن هؤلاء وغيرهم رجال.

برزت في المقابل أقلام نسائية استطاعت مناكفة الرجال في الكتابة عن مواضيع، ظن الرجل أنه الواحد القادر على امتلاك ناصيتها. فبرعت أديبات من طينة مي زيادة ورضوى عاشور في إثبات قدراتهن على تحدي هيمنة كتابات الرجل. ويذكر التاريخ أن كاتبات انتحلن أسماء ذكورية للكتابة، دون أن يكتشفهن أحد، فالكاتب الفرنسي جورج ساند لم يكن سوى الاسم المستعار للروائية أمانتين أورو لوسيل دوبان، وكان دانيال شتيرن اسم توقيع ماري داغو نصوصها الإبداعية، واختارت الإنجليزية ماري آن إيفانس نشر روائعها باسم جورج إليوت.

قد يرى البعض في اهتداء المرأة إلى حيلة النشر بهوية مجهولة حجة تثبت حجم الاضطهاد والتهميش الذي لحقها. مبدئيا هذا صحيح، مع التنبيه إلى وجوب وضعه في سياقه التاريخي، لكنه أيضا دليل على أن الكتابة فعل إنساني خالص، دون اعتبار لجنس القائم به. هذه الحقيقة لم ترق كثيرا للراغبات في إثبات حقهن في الاختلاف، حين أقررن بداية القرن الـ20 جائزة خاصة بالأدب النسائي، تحت اسم "فيمينا".
تكشف العودة إلى سياق الاهتداء للنشر بأسماء مستعارة أن الجو العام حينذاك، كانت تحكمه هيمنة العقلية الذكورية، فحتى رموز التنوير الأوروبي كانت مواقفهم حول المرأة خجولة جدا؛ لقد عد جون جاك روسو "المرأة تدرك كل شيء، ولا تحتفظ بأي شيء"، وقال الفيلسوف بيير ج برودون عنها "المرأة فنانة، لذلك عُهد إليها بأمور البيت. هل تتصور مثلا أن تقضي وقتها في الرسوم المائية وخلط الألوان"؟ يعد ديدرو وفولتير من أصحاب المواقف المحتشمة، فالأول يرى أن "العدد القليل من النساء النابغات شاذ وليس قاعدة"، بينما الثاني يعترف بأنه "توجد عالمات مثلما وجدت من قبل محاربات، لكن لم توجد قط مبدعات".

قد تجد المواقف المتطرفة التي عبر عنها رموز التنوير في أوروبا، تفسيرا لها في طبيعة ومضامين الكتابة النسائية، التي بدأت على الأرجح في المجتمع الأوروبي، أواسط القرن الـ15، حيث حضرت المبالغة في الاحتفاء بالذات المنغلقة على نفسها ومشاعرها وأحلامها، وافتقد فيها الخيال والموضوعية والانسجام والبناء الفني. وبرز هذا بجلاء في أعمال روائيات؛ خصوصا في بدايات القرن الـ19، مثل الكاتبة جين أوستن التي كتبت "كبرياء وهوى" (1813) لمناقشة قضية حياة المرأة الأوروبية، وتحديدا الزواج داخل الطبقات الاجتماعية. الموضوع ذاته حضر في قصة شارلوت برونتي "جين إير" (1847).

يساعد السياق العام لأوروبا على فهم التطرف تجاه الكتابة النسائية، فالثورة الفرنسية لعام 1789 بشعارها "الحرية والعدالة والمساواة"، أنكرت على النساء حقهن في التعلم، ومنع عليها قانون نابليون لعام 1801 حقوقا أخرى إلى جانب حق التعلم، ولم تنل بعضا من حقوقها حتى عهد الملك لويس فيليب، عقب ثورة 1830؛ التي شهدت انبثاق ثقافة الصالونات الأدبية النسائية، بذلك تكون الأوضاع المعيشية للمرأة عاملا مهما في نوعية وجودة الإبداع، فالمبدع ابن بيئة، أو بحسب تعبير الروائية فرجينيا وولف "كان ينقص الموهوبات منهن لتأكيد نبوغهن مورد للعيش وفسحة من الوقت وغرفة خاصة".

كل هذا أضحى من التاريخ اليوم، ما يعني أن الحديث عن "أدب نسائي" يبقى خارج السياق، فلدى "تاء التأنيث" في هذا العصر ما يكفي من الحرية للكتابة والإبداع، للمساهمة بلبنات فذة في صرح الأدب الإنساني. ولدى "نون النسوة" من مناصرات هذا الأدب مقولة ساخرة للتأمل مفادها "أن الأدب النسائي بدأ بالمطالبة بحق المرأة في أن تكون رجلا، ثم صار يطالب بحقها في أن تكون امرأة".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون