ثقافة وفنون

«نظرا لضيق الوقت» .. الكلمة الأدبية أم المعادلات الرياضية؟

«نظرا لضيق الوقت» .. الكلمة الأدبية أم المعادلات الرياضية؟

"المعادلة الرياضية لانتظام الحوار الداخلي بين حبيبين".

«نظرا لضيق الوقت» .. الكلمة الأدبية أم المعادلات الرياضية؟

بداية لأسلوب مختلف في الكتابات الأدبية.

في زمن ينصهر فيه الوقت، ويذوب بين براثن الحياة اللاهثة وراء المشقات، في عالم يضيق به الوقت ولا يتسع لنثر كلمات أو نظم قصائد، في دنيا سادت فيها أنوثة الآنسة "تقنية"، وطغت على عقول الكثير، ولدت مجموعة قصصية للكاتب اللبناني بشير عزام تحت عنوان "نظرا لضيق الوقت"، بدأها بالعد التنازلي 1 وانتهت بالعد التنازلي 2، وما بين الأول والثاني انسياب أدبي يجعلك تعشق الكلمة والوصف الذي تحويه تلك الصفحات، ما بين الأول والثاني روايات متناثرة، استهل الكاتب كل جزء منها بشكسبيريات متنوعة، أضفت على الرواية نفحات فلسفية وأدبية.
لقد جمع الكاتب في هذه المجموعة القصصية، المؤلفة من 159 صفحة، الأدب الذي ينحني أمام خيال العقل البشري، والمعادلات الرياضية الفيزيائية الكيميائية الجامدة، ولطالما اختلف الوصف الأدبي الذي يفوق الحدود بكل أبعادها عن اللغة العلمية التي نتسمر أمامها ونتجمد "لغلاظتها" أو ثقلها، لكن الكاتب في هذه المجموعة وفق بين الاثنين، فجعلنا كقراء نتوق إلى معرفة ماذا تحوي أقسام هذا الكتاب الثلاثة "معادلات رياضية للحب"، "فيزياء القلق" و"التفاعلات التسلسلية للبؤس".
انتقاء المعارك
استهل الكاتب قسم "معادلات رياضية للحب" بقصة "فداء لغروزني"، التي تتحدث في بداياتها عن حادثة تعرض السفارة الروسية في بيروت لاعتداء مسلح عام 2000، فتظن كقارئ أنها ستكون رواية حربية، لكن سرعان ما يطير بك الكاتب الى خبايا الحياة العائلية لرجل يدعى سلوم، كان موجودا أثناء الاعتداء، يخبرك عن زوجته التي يشك في أنها تخونه من دون أن يعطيك جوابا، إذا ما كانت شكوكه سليمة، ثم ينتقل إلى ابنته ثم ابنه، وفي النهاية تنتهي بالمواجهة، مواجهة مشكلاته العائلية، لكن من أين سيبدأ، وهنا الدرس الذي تعلمه سلوم في انتقاء المعارك.
إن عناوين القصص التي طرحها الكاتب لا تعطي فكرة واضحة عن المضمون الذي جاء بمعظمه من صميم الحياة العائلية والزوجية، ففي قصة "حبة عنب أسود" طرح الكاتب المعادلة الرياضية لاحتمالات الزواج المدبر، وشرح من خلال سرد الأحداث المشوقة كيف تكون العلاقة بين الرجل والمرأة بعد الزواج مباشرة، حينما يغرقان بين أنفسهما لاكتشاف ما يدور في خلج الشريك.
أما القصة المميزة فكانت "عرض زواج"، حيث روى لنا لعبة أعدها زوج مع زوجته وحبكاها بكثير من الدقة، وعند التنفيذ أصيبا برهبة، ليست رهبة تمثيل عرض الزواج لاثنين متزوجين منذ فترة، بل رهبة التجربة الأولى الموجودة داخل نفس كل منا، أما المعادلة الرياضية التي وضعها الكاتب لهذه القصة فهي "المعادلة الرياضية لانتظام الحوار الداخلي بين حبيبين أو أكثر".
رسالة داخل قصة
بعد مرور بعض الوقت على قراءة هذا الكتاب نصل إلى قصة "السيرك" التي جذبنا فيها الكاتب في استهلالية مختصرة بدأها بـ"صديقتي، إن أي تماثل بين أحداث هذه القصة وشخصياتها، وأحداث وشخصيات واقعية لا يمكن أن يكون محض صدفة، بل هو أمر طبيعي ومتوقع وربما ضروري، إلا أن محاولة مطابقة الأسماء والوقائع مع أخرى حقيقية هي دليل قلة اعتبار للعبة الأدب، كما أن محاولة غض النظر عن هذا التماثل هي دليل قلة مسؤولية تجاه الحياة"، بهذه الكلمات يدفعنا بشير عزام إلى الغوص سريعا في التفاصيل لمعرفة هذه القصة، ينقلنا بين لينا، إدغار، رشا، نديم، لارا، والخلاصة التي كانت معادلتها الرياضية للحب من طرف واحد، جاءت كالتالي "يمكنني صديقتي أن أتابع حتى الصباح، لكنني لن أفعل، لثلاثة أسباب: أولا، لأن بطارية اللابتوب على وشك النفاد، ثانيا، لأنني لن أستحصل على موافقة فراس ورنا وإيهاب وباتريسيا ومنصور وهبة و... لاختراق حكاياتهم المتسلسلة والمتداخلة والمترابطة، أسوة بما فعلت مع لينا وإدغار ورشا و... ثالثا، الفكرة وصلت"، وتابع "لا يحصى من حالات العشق الجزافي: "جننا بليلى، هي جنت بغيرنا/ وأخرى بنا مجنونة لا تريدها"... المسلسل التركي الأول.
وختم بالقول "صديقتي رويت كل هذا لتتأكدي أنك قد تكونين مجرد حبيبة حبيب حبيبة حبيب حبيبة حبيب حبيبة الشخص الذي تحبينه لا أكثر. مجرد فيلة من ضمن حلقة لامتناهية من الفيلة التي يمسك كل منها بخرطومه ذيل الفيل الذي أمامه، وتمضي جميعها قدما بتثاقل وانحناءة رأس. في دوامة لن تنتهي الا بانتهاء عروض السيرك الكبير".
بهذه النفحات تفرد الكاتب بأسلوب قصصي مبتكر وحوارات طبيعية مع كثير من الوصف الأدبي الثقيل، في زمن تسيطر عليه اللغة الخفيفة البسيطة، إنه أسلوب ثقيل، لكنه واقعي كأنك تجلس معه، ويقص عليك أخبارا من هنا وهناك.
من الحب إلى القلق
في أسلوب مشابه للتسلسل لكنه مختلف بهيكليته، بدأ بشير عزام قسم فيزياء القلق بقصة "أبجدية السديم" تنقل خلالها ليس بالأسماء بل بالأحرف، حيث بدأها بحرف "ي"، ثم "و" و"هـ" و"ن"، واستكمل عددا من الأحرف، وتحت كل حرف جزء من القصة، إلى أن وصل إلى "غ" وترك مكان القصة فارغا، كأنه يحاول أن يوصل فكرة اللانهاية في كل شيء، تماما كقصة لينا ورشا وووو، لكن هنا كانت بالأحرف، يقول في هذه القصة "إن التاريخ هو مجرد الجلبة التي تحدثها القافلة البشرية في مسيرتها من البداية المصادفة إلى النهاية الحزينة"، أما المعادلة الرياضية فكانت "إحدى معادلات فيزياء الشيزوفرينيا"، وتضمن هذا القسم أيضا قصة جميلة عن علاقة الاب بابنه عنوانها BMW، وطرح في قصة متوالية هندسية مقاربة كمية "الرسم البياني الثلاثي الأبعاد لمعادلة أزمة منتصف العمر"، كذلك في قصة "زيتون" نشر مجسما بيانيا يظهر نظرية الديناميكا الحرارية للبرود العاطفي.
البؤس
في القسم الثالث "التفاعلات التسلسلية للبؤس" بدأها الكاتب بقصة سليم ومرضه النادر، ثم انتقل إلى قصة "البول الشفاف"، بطلها الشاب نائل، الذي أعطى قصته القصيرة "البول الشفاف" أستاذ مادة اللغة العربية، الذي نصحه - بمودة وحرص حقيقيين - بأن يكف عن إضاعة الوقت والطاقة، فضلا عن الإساءة إلى الذوق العام. بكلمتين "هذا مقزز" صرفه، متمنيا له أن يركز على مادة الجغرافيا، لأنها - استنادا إلى محاجة قوية نسيها نائل الآن - هي المستقبل، لكن بعد فترة انتشرت قصة "البول الشفاف" وتعرض نائل ابن الـ15 من عمره لكثير من المساءلة عما ورائيات هذه الرواية.
أما قصة "نباح" فلقد تجلى فيها البؤس بوضوح من العبارة الأولى "سعيد رجل تعيس، لطالما نبحت الحياة في وجهه، ومن مسافة قريبة جدا بشكل يثير الرعب، كاشفة عن أنياب ناصلة يسيل من بينها لعاب لزج، نابتة من فك عدواني في وجه مليء بالشعر المليء بدوره بالبراغيث. لم الرعب؟ لأن سعيد أهل له، ولأن الحياة تستطيع أن تكون وغدة جدا حين تشاء"، واستكمل الكاتب قصص سعيد المأساوية "في غرفة الجلوس جلس التعيس يراقب القفص الموضوع أمامه لا يدري ما يتعين عليه أن يفعل"، أما المعادلة لهذه القصة فكانت "التفاعل التسلسلي للحظ العاثر و/أو النحس".
ماذا لو...؟
في نهاية كل جزء من الكتاب توجد قصة "ماذا لو...؟" مرقمة من 1 إلى 3، "ماذا لو استيقظت صباحا لتجد المساحة التي تشغلها زوجتك عادة على سريركما المزدوج خالية للمرة الأولى"، "ماذا لو وجدت نفسك وراء خطوط عدو لم تكن في عمق داخلك تعده عدوا في الأساس"، "ماذا لو أيقظك صوت المكيف اللعين لتجد نفسك وحيدا في شقة من ست غرف، خصص لك أصغرها، وليس لك وحدك بل يشاركك إياها شاب طيب ومتدين". إنها سلسلة "ماذا لو"، هذا السؤال الذي يدور في أعماقنا بشكل يومي ونحاول أن نلبسه جميع المواضيع التي تزعجنا في الحياة، هنا جسدها الكاتب في ثلاث قصص منفصلة، لكنه فتح المجال أمام كم كبير من الاستفسارات والتوقعات والمستقبل، جميعها تبدأ من داخلنا بسؤال "ماذا لو...؟".
لا شك أن هذه المجموعة القصصية التي نشرها الكاتب اللبناني بشير عزام تحت عنوان "نظرا لضيق الوقت" ستكون البداية لأسلوب مختلف عما هو متعارف عليه في الكتابات الأدبية.
الجدير بالذكر أن الكاتب بشير عزام هو لبناني الجنسية، يعيش ويعمل متنقلا بين دول عدة، نشرت له قصص قصيرة في دوريات أدبية عربية مختلفة، صدرت له "ملك اللوتو" عام 2011 التي تشارك في كتابتها مع الروائي اللبناني جهاد بزي، ويعد كتاب "نظرا لضيق الوقت" إصداره الأول منفردا.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون