هل تنجح عوامل ترشيد استهلاك النفط العالمي في تخفيض الأسعار؟

هل تنجح عوامل ترشيد استهلاك النفط العالمي في تخفيض الأسعار؟

يتساءل البعض هل هناك علاقة طردية أو عكسية بين ارتفاع الأسعار وانخفاضها بين أسواق الأسهم العالمية وأسعار السلع الأولية بما فيها النفط؟ كثير من المحللين الاقتصاديين فقدوا بوصلتهم بعدما أصبحت أسواق النفط متقلبة بشدة وتتأثر بعديد من العوامل بحساسية شديدة، وبالتالي أصبح من الصعب توقع اتجاهات الأسعار. ورغم الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة للحد من المضاربات على النفط, إلا أن بعض المراقبين يستغربون من استمرار ارتفاع الأسعار في سوق الطاقة, ويستغربون في الوقت نفسه من التراجع الأخير في أسعار النفط التي حدثت خلال ثلاثة أسابيع فقط حتى بداية آب (أغسطس) 2008, التي تراجع فيها سعر برميل النفط بنسبة 15 في المائة خلال الفترة نفسها, كما تراجع الغاز بمقدار الثلث, وإن كان البعض يرجعها إلى نتائج تراجع سلوك الاستهلاك في الدول المتقدمة التي تحصل فيها الدولة على رسوم ثلثي قيمة البنزين عند بيع التجزئة, وبصورة واضحة تمثلت في تقليص حركة السيارات الخاصة, والبعض الآخر يرجع انخفاض الأسعار إلى التضخم الذي تعانيه الدول وما نتج عنه من تباطؤ, خصوصا في الدول التي تعتمد على قوة الاقتصاد الأمريكي وتمثل السوق الرئيسة للسلع الصينية أكبر اقتصاد آسيوي ناشئ, ولهذا تظل العين على صحة الاقتصاد الأمريكي والاقتصادات العالمية الأخرى وإلى أي مدى يتسارع تباطؤها أو تتمكن من تجاوز هذه المرحلة والعودة إلى دائرة النمو المتصل مرة أخرى. وظلت أسعار النفط مستمرة في الصعود حتى بلغت ذروتها في 11 تموز (يوليو) بعد موجة صعود على مدى ست سنوات حركتها طفرة اقتصادية آسيوية, وكان الطلب الصيني يمثل العامل الرئيس وراء نمو الطلب العالمي, ما أضاف نحو 12 في المائة إلى حجم الاستهلاك العالمي. وقبل الانخفاض الأخير في أسعار النفط كانت دول "أوبك" تعزي ارتفاع الأسعار إلى المضاربات, فيما تعول الدول المستهلكة للنفط إلى قلة المعروض في الأسواق الذي كان السبب الرئيس وراء الطفرة الكبيرة في الأسعار, أما خبراء النفط فإنهم يلقون باللائمة على تزايد المخزونات, والبعض الآخر منهم يلقي باللائمة على قيمة الدولار المنخفضة, ما ترك الساحة لمزيد من التوقعات غير الواضحة التي لا يمكن البناء عليها انعكس أثرها في فاعلية السوق, وجعلتها متقلبة بصورة حادة فتح الباب أمام خيارات بعيدة المدى وصلت إلى تهديدات من الكونغرس الأمريكي إلى مقاضاة "أوبك", (وهو مشروع قانون يمنح وزارة العدل سلطة مقاضاة أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط "أوبك" على تقييد إمدادات الخام), وبالفعل صوت مجلس النواب لصالح المشروع في أيار (مايو) 2008, لكن لم يحدد مجلس الشيوخ موعدا للاقتراع عليه حتى ولو تم الاقتراع عليه فإن الرئيس الأمريكي جورج بوش أعلن أنه سيرفض المشروع وسيستخدم حق النقض (الفيتو). لا بد أن يدرك الجميع أن أسعار النفط ارتفعت في السنوات الست الأخيرة مدعومة بتزايد الطلب من اقتصادات صاعدة مثل الصين, وعززت المكاسب بداية هذا العام 2008 تدفقات السيولة المرتفعة على أسواق السلع الأولية من مستثمرين يسعون إلى التحوط من التضخم وضعف الدولار. خلال النصف الأول من هذا العام تراجع الاستهلاك النفطي في منطقة منظمة التعاون الاقتصادي بمقدار 760 ألف برميل يوميا معظمه في الولايات المتحدة, وبذلك فإن النمو المتوقع خلال السنوات الخمس المقبلة سيتركز في الدول الناشئة . فالسؤال هل ستنخفض الأسعار في ظل انخفاض الطلب في الدول المتقدمة؟ وهذا يعتمد على حجم الإمدادات من خارج "أوبك" التي كانت تقدر في حدود 860 ألف برميل يوميا إلى مليون ونصف مليون برميل يوميا العام المقبل لكنه لن يصدق على أساس الأداء الفعلي الذي يشير إلى أن حجم الإمدادات من خارج "أوبك" بلغ 230 ألف برميل فقط, ويتوقع أن تتحسن وترتفع في النصف الثاني من عام 2008 إلى 700 ألف برميل نتيجة تحسن وضع الإمدادات في أذربيجان والبرازيل يمكن أن تصعد إلى 830 ألف برميل يوميا العام المقبل وفقا لتقرير المدى الوسيط لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية . فإن الطلب على النفط سيبلغ نموه بنسبة 1.6 في المائة سنويا أي يرتفع من 86.87 مليون برميل يوميا هذا العام إلى 94.14 مليون برميل عام 2013. و"أوبك" لا تنتج إلا 32.3 مليون برميل يوميا والباقي من خارج المنظمة, وإذا كان الإنتاج سيتحسن في كل من العراق وأنجولا لكن سيكون أقل من تعويض التراجع عن الإنتاج النيجيري والفنزويلي والإيراني أحيانا. المهم أن هناك عوامل تقليدية وأخرى مستحدثة أصبحت تلعب دورا أساسيا في دفع الأسعار إلى أعلى على المدى المنظور, كالضباب الذي يحيط بأجواء الاستثمار والنقص في الآليات والقوى البشرية المدربة إلى جانب البعد الجيوسياسي الذي أدى إلى غياب ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل لأسباب أمنية وسياسية. تكاليف تنفيذ مشاريع نفطية جديدة تضاعفت مقارنة بما كانت عليه قبل أربع سنوات, فتكلفة حفارة تعمل في المياه العميقة ارتفعت من 125 ألف دولار إلى 650 ألف دولار يوميا . ومع تزايد هذه القناعات بوجود طلب متنام ووجود شيء من الشح في جانب الإمدادات, فإن التركيز على دور المضاربين في دفع الأسعار إلى أعلى بدأت تتراجع, وبدأت القناعات تركز الضوء على جانبي العرض والطلب أي أن المخاوف حول الإمدادات بدأت تتجه نحو الإنتاج, فهل ينضب النفط؟ فالنضوب هو الذي سيحدد سعر تكلفة الفرصة البديلة رغم قوة العوامل الأخرى, كالعامل الجيوسياسي وهو الذي يتحكم في وضع العرض والطلب والأداء الاقتصادي, ورغم تغير السلوك الاستهلاكي في الدول المتقدمة، لكن لم تظهر بوادر على تراجع الطلب في الصين والهند لأن الطلب يقتصر أغلبه على المشاريع التنموية, وهو ما يدفع الطلب على النفط صعودا رغم التباطؤ العالمي ما يجعل الإمدادات مصدر قلق رئيسا. فوكالة الطاقة تلقي باللوم إلى حد كبير على تزايد الاستهلاك المحلي للوقود في الصين والهند والشرق الأوسط في تأجيج صعود أسعار النفط لأكثر من ستة أمثالها منذ عام 2002 لذلك فهي تتوقع رغم انخفاض السلوك الاستهلاكي في الدول المتقدمة أن ينمو الطلب على النفط مليون برميل يوميا هذا العام. وتطالب الوكالة بقرارات بتقليص دعم الوقود وإلغاء كل أشكال الدعم الذي سيسهم في النهوض بترشيد استهلاك الطاقة ويحد من الطلب ويكبح الأسعار . من جهة أخرى, اتجهت الولايات المتحدة إلى ترشيد استهلاك النفط العالمي فلجأت إلى إبرام صفقات بيع مفاعلات نووية إلى الصين والهند التي كانت محظورة في السابق خوفا من انتشار الأسلحة النووية مقابل ضمانات سياسية وأمنية واقتصادية كعودة الشركات الأمريكية المستبعدة عن السوق الصينية أمام منافستها من الشركات الفرنسية والكندية أو الروسية مقابل أن تسمح لها أيضا بنشر صواريخ أمريكية في قواعد متفرقة من العالم في إطار برنامج حرب النجوم الصاروخي الدفاعي المثير للجدل. وفي ضوء ذلك تهدف الولايات المتحدة إلى بناء 30 مفاعلا نوويا بقدرة ألف ميغاواط حتى عام 2015 والتي تشكل بمفردها 80 في المائة من مجمل المحطات النووية التي ستبنى خلال العقدين المقبلين, ما يقلل من استهلاك النفط نتيجة محدودية المنتجات النفطية جغرافيا واحتياطيا. وتعد الصين من الدول التي ما زالت العلاقة فيها واضحة بين معدلات النمو الاقتصادي ومعدلات النمو في الطلب على النفط, خصوصا أن السوق الصينية تشهد دخول 1400 سيارة جديدة يوميا. وكذلك صوتت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالإجماع في اليوم الأول من آب (أغسطس) 2008 تأييدا للاتفاقية النووية المدنية بين أمريكا والهند رغم رفض الهند التوقيع على معاهدة حظر التجارب النووية الشاملة منذ زمن طويل. وبذلك تحقق الولايات المتحدة هدفين في آن واحد: الاول تخفيض استهلاك النفط, والثاني: إعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة نتيجة قلق الولايات المتحدة من تنامي القوة العسكرية للصين ونياتها الاستراتيجية المستقبلية. وتعد الصين والهند أكبر دولتين في العالم سكانا ونموا اقتصاديا, ولكن هل ينخفض الطلب على النفط في هاتين الدولتين وتنخفض الأسعار وسط عزم الصين والهند على انتشال نفسيهما من الفقر وتلكؤ الغرب في الاستغناء عن حياة الترف في العصر الحديث المستندة إلى النفط؟ خصوصا في ظل توقف المسكنات السابقة التي ازداد نمو إنتاج النفط الروسي خلال السنوات الخمس الماضية بمعدل 12 في المائة سنويا بينما الآن بدأ تراجع النفط الروسي نصف نقطة مئوية في نيسان (أبريل ) 2008 في أول هبوط في عقد كامل, إضافة إلى إعلان الملك عبد الله ـ حفظه الله ـ ترك الكشوف الجديدة في باطن الأرض للأجيال المقبلة, ما ترك الباب مفتوحا أمام أسئلة كثيرة, خصوصا أن السعودية الدولة الوحيدة في العالم التي تملك احتياطيا ضخما من النفط. [email protected]
إنشرها

أضف تعليق