أزمة غذاء.. أم أزمة ضمير؟!

أزمة غذاء.. أم أزمة ضمير؟!

"إن الجوع لا ضمير له" الممثل والمخرج البريطاني تشارلي تشابلن اشتركت في عام 1985 في تنظيم أكبر حفل موسيقي في العالم الذي أطلق تحت شعار "مساعدة إفريقيا", التي كانت في تلك الفترة ترزح تحت أقوى ضربات الجوع والمرض والفقر. كنت واحدا من مئات آخرين اشتركوا في عملية التنظيم, ولاسيما أن هذا الحفل أقيم في وقت واحد في أربع مدن هي: لندن, فيلادلفيا الأمريكية, موسكو, وسيدني، واستقطب جمهورا بلغ أكثر من 1.5 مليار شخص، ممن حضروا هذه الحفلات، وممن تابعوها حية عبر الأقمار الصناعية، في أكثر من 100 بلد. الناتج الفني لهذا التجمع العالمي التاريخي الهائل رافقه ناتج مالي كبير، وجه إلى الدول المنكوبة جوعا وفقرا في القارة الإفريقية، لكن إلى جانب الأهمية الفنية و"النجدة" المالية، تأجج ضمير شعبي عالمي كان ضروريا، خصوصا في ظل تراجع الضمير "الحكومي" العالمي آنذاك، بحجج متعددة – وبالطبع غير واقعية- في مقدمتها الحرب الباردة التي كانت مشتعلة، بين العملاقين السوفياتي والأمريكي. تذكرت أحداث وتداعيات ذلك الحفل الإنساني الكبير، ونحن منغمسون في أزمة الغذاء الحالية التي لم تعد تستهدف القارة الأفقر، بل تنال من كل القارات، ولاسيما البلدان الفقيرة منها. والأخطر أنها تنال من المستقبل قبل الحاضر، ومن فطور صباح الغد قبل عشاء هذه الليلة. وعلى الرغم من أن العالم اليوم تحكمه مجموعة من الأزمات التي قد "تتنافس" فيما بينها حول عمق فداحتها، من المشكلة المالية العالمية التي ولدت من أزمة الرهن العقاري الأمريكي، إلى أزمة الطاقة ومستقبلها – وهذه مرتبطة بصورة أو بأخرى بأزمة الغذاء – مرورا طبعا بالأزمات المرتبطة بالبيئة ومستقبل العالم معها، وتلك الناجمة عن بروز الاقتصادات الكبرى الجديدة. على الرغم من هذا كله فإن أزمة الغذاء العالمي لا بد أن تمثل الهم الأكبر ليس فقط لأولئك الذين لا يجدون قوت يومهم، بل أيضا للذين يمسكون بمصير اللقمة. فالأزمات الأخرى – على أهميتها – تبقى في النهاية أزمات مرحلية، قد تطول مددها أو تقصر، إلا أنها حلول تلوح في الأفق، وتتبلور بصورة واضحة المعالم. يضاف إلى ذلك أن العالم يستطيع أن ينتظر حلولا لتلك الأزمات، لكنه هل يقوى على الانتظار طويلا للحصول على الرغيف؟ لقد أظهرت المؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، فشلا ذريعا في التوصل إلى حلول أو أنصاف حلول لأزمة الغذاء العالمي. فكما أن حفلا موسيقيا – مهما كبر – لا يمكن أن يحل أزمة مستفحلة – ربما خفف من بشاعة حالة - كذلك الأمر في رصد بعض المساعدات من الدول الكبرى، التي كان آخرها دعوة الرئيس الأمريكي جورج بوش تقديم معونة غذائية قيمتها 770 مليون دولار للدول النامية، فضلا عن المساعدات العاجلة التي قدمها البنك الدولي للدول الفقيرة على شكل قروض ميسرة. فالمشكلة لم تعد قاصرة على هذه الدول، بل بدأت تنسحب على الفقراء داخل الولايات المتحدة نفسها، مع تأثر سكانها بشكل كبير من جراء ارتفاع أسعار المواد الغذائية. لكن أيضا هنا يوجد فارق كبير. فللأمريكيين إدارة ستحميهم في النهاية من وخز الجوع، إلا أن ارتفاع الأسعار في الدول الفقيرة يعني الفرق بين أن يأكل الناس أو أن لا يأكلوا، والنتيجة شوهدت في أعمال شغب ومظاهرات واعتصامات.. وحتى أعمال قتل، من أجل الحصول على الرغيف. مرة أخرى لم تستطع التجمعات الكبرى – الأمم المتحدة بمؤسساتها، الاتحاد الأوروبي، مجموعة الدول السبع الكبرى، البنك وصندوق النقد الدوليين – طوال العقدين الماضيين من وضع حلول ناجعة لأزمة الغذاء. بل إن مؤتمرات القمم العالمية التي خصصت للغذاء، التي كان آخرها قمة روما عام 2002، وقفت ضائعة بين التوصيات التي أقرتها، وبين علقم الحقيقة على الأرض. فالقضية لم تعد تتحمل توصيات، بل تحتاج إلى قرارات ليس ملزمة فحسب، بل أيضا ملفوفة "بقدسية الضمير"، لأن الأرقام المشينة يجب ألا تحرك الضمائر فقط، بل ينبغي أن تدفع للعمل لا للأمل، وللإنقاذ لا لوضع خطط للنجاة. فبعد كل" القمم الغذائية"، والمساعدات الارتجالية، أقرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والمعروفة اختصارا باسم ( الفاو)، أن الجوع يودي بحياة خمسة ملايين طفل سنويا في العالم. وهؤلاء الملايين الخمسة لا يموتون فقرا بل جوعا!. كما أن هذا الإحصاء المرعب يعود إلى عام 2004. وفي ظل أزمة الغذاء الحالية، فإن الرقم لا بد أن يكون أكبر من ذلك. ومن المفارقات أن مؤتمر روما 2002 اعتمد بالإجماع إعلاناً يناشد المجتمع الدولي الوفاء بتعهداته السابقة بخفض عدد الجياع بنحو 400 مليون جائع بحلول عام2015. ومن المفارقات أيضا أن هذا التعهد قد قُدِّم أثناء مؤتمر القمة العالمي الأصلي للأغذية عام 1996. فإذا لم تنفع توصيات وقرارات "القمم الغذائية" على مر السنوات، هل يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من خلال تشكيله "خلية أزمة" خاصة بمتابعة أزمة الغذاء العالمي، وضع حلول ناجعة؟ نعم مازالت هناك مساحة من الزمن، أو فسحة من الأمل – قبل أن تتضخم أفواه الجائعين وتأكل كل ما هو متاح – للوصول إلى الحلول. لكن يجب على هذه الخلية أن تتعاطى مع هذه الأزمة – الكارثة، بروح الأب، لا بالمعايير السياسية، وبذهنية العائل، لا بسلوك السيد، وبأسلوب الحكيم، لا بفظاظة المانح. ومن دون ذلك فإن عدد الجائعين الذي بلغ العام الماضي –حسب تقديرات منظمة الغذاء العالمية – 799 مليون شخص، سيزدادون عددا وجوعا هذا العام والأعوام المقبلة. ومن يدري فإن هؤلاء قد يتحولون إلى جيش جائع من المستحيل أن تجد "جنديا" واحدا فيهم مهتما بمسألة الضمير، وهو منشغل في البحث عن حبة قمح. [email protected]
إنشرها

أضف تعليق