نموذج الليبرالية الألمانية وآليات نقابات العمال
(أبي .. لماذا يوجد لدينا نقابات؟ لكي يستطيع العمال المشاركة في الإدارة. وماذا عن الأجور؟ الأجور تضعها الدولة. وما رأي النقابات في ذلك؟ هم الذين أرادوا ذلك. وماذا سيفعلون الآن؟).
هذا الحوار الساخر كان في صيف 2006 يلخص الجدل القائم حول العمل والأجور. ومن المحتمل أن تكون عام 2010 الوصف المتوقع للحقيقة، هذا إذا أمكن إقناع السلطة التشريعية بوضع الحد الأدنى للأجور والأجور المركبة في خدمة البحث عن استراتيجيات لتوفير فرص عمل أكثر.
منذ بداية تاريخها كانت خلفية التعامل والتحفيز لدى النقابات الألمانية دائما خلفية اجتماعية مبدأها: "تضامن العمال". هذا يعني تكاتف دون نزاع طبقي. البيئة الاقتصادية مقبولة، ولكن المساهمة في الإنتاج الكلي لطريقة الإنتاج الرأسمالية ينبغي أن تُؤمّن من خلال "الاتحاد"، أي من خلال التكاتف.
وقد صاغ عالم الاقتصاد الألماني "إيريك برايزر" (1900 حتى 1967) أسباب ووظيفة مثل هذه الاتحادات في جملة مؤثرة: "العامل لا يستطيع الانتظار". ففي التفاوض حول الأجر يستطيع الرأسمالي أن يتعمد التأخير لاستغلال الوقت، ولكن العامل يجب أن يجد عملا لدى شخص ما من الصباح الباكر، ليعود يرجع في المساء إلى المنزل ومعه الأجر الذي كان يترقبه بشغف.
وفي جميع الأحوال لم تكن هذه هي الشروط غير المعتادة في الرأسمالية المبكرة. وبدلا من الانتظار الذي لم يكن ممكنا للفرد الواحد تظهر من خلال تأسيس النقابات قوة التفاوض المتحدة لاتحاد العمال، فقد تحولت قوة وعجز الانتظار إلى علاقة يمكن للعامل أن يتحملها. وهذا التحول ينعكس على أجر الفرد وعلى نسبة الأجور في الاقتصاد الكلي.
ليس من العجب أن يكون مثل هذا النموذج بكل ما يشمله من أسباب أخلاقية نموذجا جذابا. الأمريكي "جون كينيث جالبريث" (1908 حتى 2006) قام بتوسعته ليصبح أساس نموذج يمتد ليطول بكثير حد مفاوضات الأجور للنفوذ المتوازية في الثقل. وفي السبعينيات من القرن الماضي قدم هذا النموذج الحجج لأجزاء وصلت حتى إلى الليبرالية الألمانية لتبديل نموذج المنافسة بنظام قوى معارضة ولجان فاصلة مشتركة متعادلة. وقد ترك نموذج "جالبريث" آثاره في مجالس إدارة شركات رأسمالية ألمانية.
ولم تكن نماذج الثقل المتوازي هذه قط بديلا صالحا لقدرات السوق والمنافسة، ولن تستطيع أن تصبح كذلك. لأنها ليست في وضع يخولها لمحاكاة قدرة السوق على البحث، وبالأخص عندما تكون هذه القدرة في مراحل القلق المنتج الناجم عن دخول منافسين جدد، وفي المواقف الاقتصادية المهمة الناجمة عن فتح الحدود وفي القوى الدافعة للتقدم التكنولوجي المقلل للتكاليف والمحفز للإبداع في الإنتاج.
السبب في عدم مقدرة جميع نماذج الهيمنة السوقية المتوازية في الثقل والمنظمة للتعامل مع ما هو جديد، يعود بالدرجة الأولى إلى تلك النماذج نفسها. وبالقياس إلى إمكانيات المنافسة، تفتقر النماذج إلى التنوع في التفاسير، وإلى النظريات حول المستقبل وإلى التفاعلات مع التغيرات الهادمة؛ وهي تفتقر، وبالأخص بسبب دفاع المجموعات، إلى قدرة البحث عن حلول جيدة من خلال أوسع مدى ممكن من الانفتاح نحو تجارب. وتفتقر هذه النماذج أيضا إلى الشيء الذي يجعل في النهاية السوق رائدة: عملية الاختيار التي تؤسس نفسها بنفسها، التي لا يمكن لأي مجموعة أن تقلدها، تلك العملية التي تفصل ما بين الصحيحة والخاطئة من الإجابات على التحديات الجديدة.
إن الجواب على نسبة البطالة المتصاعدة، وبالأخص على البطالة في الطبقات المتدنية من الكفاءات، لن يكون أبدا حدا أدنى للأجور وضعته الدولة أو لم يتم التوصل إليه من خلال مفاوضات جماعية، يجب أن يكون أمرا واضحا أمام النقابات، لأنه تحت ظل حد أدنى للأجور قد تكون فرص التشغيل في هذه القطاعات أقل، ولأن العبء المالي لعلاوات الأجور التي يجب دفعها والناجمة عن الضرائب أو تكاليف الأجور الإضافية قد تكون أثقل. وحتى المخاطر، أو بالأحرى اليقين المرتقب، للأجور المركبة التي يجب دفعها من الضرائب، يجب أن تكون مألوفة لدى النقابات، فهي تعرف تمام المعرفة أن حدا أدنى للأجور تم التوصل إليه عبر مفاوضات وتم إقراره عموما سيرفع كذلك من علاوات الأجور المركبة فورا، لأن نسبة البطالة سترتفع، ولأن توفير فرص العمل للعاطلين عن العمل لفترة طويلة سيزداد صعوبة. وعليهم أن يعرفوا أنه من خلال الحيوية الذاتية للحاجة إلى وسائل من أجل الأجور المركبة ستثقل العبء كثيرا على الميزانية العمومية.
ولا تستطيع النقابات أن تدعي أنها لم تعرف أن في نهاية هذه العملية ستنتظر هناك خطوات أخرى لرفع الضرائب. وهذا كله لا يخدم "وضع العمال"، ذلك الهدف الذي وضعته لنفسها جميع النقابات منذ تاريخ تأسيسها.
ولكن إذا كان حل السوق هو الحل الأمثل، فلماذا توجد لدينا نقابات؟ جواب النقابات عن السؤال هو: "لأن اليد العاملة تعرف أننا نعمل ما هو لمصلحتهم". وهذا من شأنه أن يدفع بالحيرة لدى البعض.
ففي كتابه "العمل والكرامة الإنسانية" يدافع الفيلسوف الاجتماعي "أوسكار نيجت" عن النظرية التي تقول إن البطالة عبارة عن عمل إجرامي، لأنها تسلب الملايين من الناس كرامتهم ولأن هذا يحدث على الرغم من أن الدول الصناعية صارت اليوم غنية بصورة لم تكن عليها من قبل.
في الواقع، الجملة لا تخدم كثيرا لوضع تحليل اقتصادي. ولكن المساواة ما بين البطالة الإجبارية وانتزاع الكرامة يجب أن تجعل النقابات تفكر: أليس هذه الصيحة موجهة لهم أيضا ؟ ألا يساورهم أبدا الشك في أن البطالة العالية قد تكون أيضا نتيجة استراتيجية الأجور التي وضعوها؟ استراتيجية أجور تقلل فرص العمل في سبيل أجور عالية ولا تراعي من الناحية الاقتصادية الذاتية توفير الرزق والمعيشة للعديد وبالأخص في طبقة اليد العاطلة عن العمل لفترة طويلة، لأن الجمهور العام الدافع للضرائب هو المسؤول عن ذلك ؟ ولكن كرامة هؤلاء المصنفين لا تستطيع الميزانية العامة أن تشهر بها.