من مكة المكرمة إلى وول ستريت.. قطار الاقتصاد السعودي في محطات تاريخية ماليا

من مكة المكرمة إلى وول ستريت.. قطار الاقتصاد السعودي في محطات تاريخية ماليا

من مكة المكرمة إلى وول ستريت.. قطار الاقتصاد السعودي في محطات تاريخية ماليا

جلس عبدالله السليمان أول وزير مالية سعودي في مبنى حجازي قديم في مكة المكرمة عام 1925، واضعا مع رجاله بنود أول ميزانية اعتمدها الملك عبدالعزيز آل سعود وقد بلغت 14 مليون ريال واقتصرت على المصروفات والإيرادات فقط لعدم وجود أي ديون أو قروض، ويصف البريطاني جون فيلبي في كتابه "40 عامًا في البرية" تلك الميزانية بأنها رسمت ملامح الاقتصاد السعودي آنذاك، إذ استحوذت الوزارات الخدمية على مليون ريال كمصروفات واقتصرت الإيرادات على الجمارك والجوازات وأموال الزكاة والحج، ما دفع الملك المؤسس إلى التنقيب عن النفط لتحديث بلاده.

بسبب تمهيد طرق الحج وتأمينها زاد عدد الحجاج إلى نحو 200 ألف حاج سنويًا، كما أثمرت جهود التنقيب عن النفط الذي ارتفع إنتاجه من أرامكو ليصل إلى 278 مليون برميل، معطيات انعكست على موازنة السعودية في مطلع الخمسينيات وظهرت بوضوح في موازنة 1951 التي أقرها المؤسس الملك عبدالعزيز وقد بلغت 940 مليون ريال وبلغت مصروفاتها الرقم نفسه تقريبًا، الموازنة رسمت صورة اقتصادية للحقبة التي ظهر فيها بعض أنواع التلاعب ما دفع الملك عبدالعزيز آل سعود إلى التحذير في الموازنة من استثناء أي أحد من الزكاة أو الرسوم الجمركية كما شدد على عدم صرف أي فائض إلا بأمر شخصي منه في دلالة على الصرامة التي طبقتها السعودية لتنفيذ خطة التحديث التي حصلت لاحقًا.

اتسمت حقبة السبعينات باقتصاد البناء والتشييد وساعد على ذلك ظهور بوادر الطفرة النفطية التي تم توجيه معظم إيرادتها إلى التحديث، فارتفعت أعداد المدارس والجامعات والمستشفيات والمطارات، واستنادًا إلى ذلك تزايد عدد شركات المقاولات التي تأسست في تلك الفترة بعد أن أضحت المملكة أرضًا خصبة للعمل، وصارت تلك الشركات الآن من الرائدة في الشرق الأوسط مثل "سعودي أوجيه" وغيرها، كما شهدت الحقبة نفسها جلب الآلاف من الأيدي العاملة من الشركات الآسيوية والتوسع في الإقراض الحكومي لدعم التنمية العقارية وبناء المصانع.

المدهش أن الموازنة العامة السعودية رغم ما طرأ عليها من تغييرات كبيرة خاصة في الإيرادات، لكنها في سنوات كثيرة لم تحقق أي فائض مثل ما حدث عامي 1977 و1978 وجاء ذلك نتيجة زيادة النفقات على التحديث وتحسين حياة المواطنين برفع رواتبهم والاهتمام بالأماكن الحدودية تشمل القرى والأرياف والأماكن النائية لتنميتها وتعزيز حياة المواطنين هناك، وإن سجلت الميزانية بعد ذلك فائض بلغ 11.4% في نهاية السبعينيات.

تغيرت البنود كثيرا واختلف شكل الاقتصاد فلم يعد مقتصرا على المقاولات وتشييد البنية التحتية، هكذا تشكلت حقبة التسعينات التي شهدت ظهور شركات البتروكيماويات بقيادة "سابك" التي بدأت تأخذ مكانتها الإقليمية في تلك الفترة، كما سجل قطاع المصارف والخدمات المالية نموًا ملحوظًا أعلن به نفسه، هذا ما لاحظه الملك فهد وهو يقر ميزانية 1993 لتكون جاهزة للعمل، ورغم احتفاظ النفط بمكانته كأهم مصدر للإيرادات بنصيب 106 ملايين ريال من أصل 141 مليون ريال إجمالي الإيرادات، وكذلك احتفاظ الحج بمكانته إذ بلغ عدد الحجاج في العام نفسه نحو مليون حاج، لكن تعدد الأنشطة الاقتصادية كان لافتًا ومذبذبًا أيضًا إذ أدى إلى زيادة نسبة خدمة الدين العام وتسجيل 8.5% عجز في الميزانية في آخر عامين من تلك الحقبة.

في 2005 سجلت الميزانية السعودية إيرادات بقيمة 564 مليون ريال وفقًا للأرقام الرسمية لوزارة المالية، صاحب ذلك استمرار النهج التصاعدي لقطاع البتروكيماويات الذي أضحى ضمن مصادر الدخل القوية، كما بدأ قطاع العقارات في الظهور مع توجه بإنشاء مدن جديدة، ومع النفط والحج والعمرة بدت التوليفة صالحة لجعل الاقتصاد السعودي رقمًا مهمًا في المعادلة الإقليمية، رغم ذلك كان النفط مازال يسيطر بنسبة تتخطى 80% وكذلك كان غياب الاستثمارات الأجنبية ملحوظًا داخل السعودية، هذا النهج استمر حتى عام 2016 أي قبل إطلاق رؤية 2030.

في 2019 شهدت السعودية أول ميزانية تريليونية في تاريخها بواقع 1.1 تريليون ريال، وهذا ليس المتغير الوحيد لأن الخريطة الاقتصادية خلال السنوات الماضية تغيرت بالكامل فلم يعد النفط هو المسيطر كالمعتاد، كون الاقتصاد غير النفطي بات يمثل 52% من الاقتصاد بحسب وزير المالية الجدعان أواخر 2024، كما باتت القطاعات الأكثر ربحًا هي السياحة والخدمات المالية والاتصالات مع احتفاظ قطاع البتروكيماويات بمركزه كصناعة وطنية قوية، كما بدأ بروز قطاعات أخرى على غرار التقنية والترفيه والثقافة والسينما والذكاء الاصطناعي.

وبصورة أشمل فإن السعودية صارت عاصمة لأنشطة لكل قطاعات المستقبل وفيها مقار أكبر الشركات العالمية، بينما لم تعد ميزانيتها أمر محلي فمجتمعات المال والأعمال من وول ستريت إلى لندن إلى الشرق الأوسط باتت تراقب قطار الاقتصاد السعودي الذي بدأ يقفز أخيرا بإصلاحات وتشريعات ونمو ملحوظ قطاعي العقار وسوق الأسهم وتوطين المحتوى المحلي.

الأكثر قراءة