ابن خادمة أرهقه الجوع .. أورتيغا من حياة البؤس إلى الثراء بفضل "زارا"
ابن خادمة أرهقه الجوع .. أورتيغا من حياة البؤس إلى الثراء بفضل "زارا"
اعتاد سكان لاكورنيا الساحلية شمال إسبانيا على رؤية رجل مسن يرتدي ملابس بسيطة يغلب عليها اللون الأسود والأزرق، ويجلس في المقاهي الشعبية ليشرب قهوته ويتبادل الأحاديث مع الجيران والأصدقاء، قلة فقط من يعرفون هويته لكن الأكثرية لا يدركون أن هذا الرجل الذي يجلس بلا حراسة أو سيارات فخمة هو أمانسيو أورتيغا، مؤسس إمبراطورية زارا للملابس وأحد أثرياء العالم بثروته التي تقدر بـ 124 مليار دولار بحسب تصنيف فوربس في مايو الماضي.
ولد أمانسيو في مارس 1936 بقرية صغيرة تدعى بوسدونغو دي أرباس شمال إسبانيا، وتزامن مولده مع بداية الحرب الأهلية في بلاده ما ضاعف من صعوبة ظروفه الاقتصادية، خاصة أن والده لم يكن سوى عامل في السكك الحديدية ووالدته ربة منزل، وبعد 3 أعوام انتقلت الأسرة إلى "غاليسيا" أملًا في تحسين حياتهم فسكنوا بيت قديم يقع بمحاذاة شريط القطار، لكن كل محاولات الحصول على دخل كبير فشلت ما جعل الأم تضطر إلى أن تعمل خادمة في بعض الأوقات.
حلمت الأسرة بأن يتفوق أمانسيو في التعليم لينتشلهم من الفقر، لكن الأخير حين أصبح فتى في سن الـ13 وأثناء سيره مع والدته في إحدى الليالي أخبرته أن البيت ليس فيه أي طعام ثم اقترحت أن تطلب من صاحب متجر أن يقرضها بعض المعلبات على أن ترد له الدين خلال أيام، لكن الرجل رفض فاصطحب أورتيغا والدته حتى البيت ثم جلس بمفرده في الشارع يفكر في هذا المشهد القاسي الذي تعرض له وتلك الإهانة الشديدة التي تلقاها وفي تلك اللحظة قرر ترك الدراسة والعمل من أجل مساعدة والديه، لاحقًا سيتضح أن هذا المشهد هو العامل المؤثر في شخصيته طوال حياته.
من محل صغير قريب من بيته ومتخصص في بيع القمصان الرجالية بدأ أورتيغا رحلته حيث كان أول ما تعلمه التعامل مع الزبائن وشراء الخامات وهما أهم عاملان في تلك الصناعة،كما أنه التقى في المكان نفسه روزاليا ميرا التي تزوجها لاحقا، ورغم أنه مكث طويلا في هذا المحل حتى تطور إلى مساعد مدير لكن أحلامه كانت أكبر إذ فكر في تأسيس شركته الخاصة وهو ما حدث عام 1963 حين أسس شركة" جي أو إيه" والتي كانت عبارة عن إنتاج بيجامات بسرعة وكفاءة من خلال التعاون مع الخياطات.
"الموضة السريعة"، مصطلح لم يكن معروفا في عالم الأزياء قبل أمانسيو الذي قرر أن ينسخ التصميمات من منصات الأزياء المرموقة أو من رموز الثقافة الشعبية في إسبانيا ثم ينفذها هو ويبيعها بسعر أرخص بدلا من أن يشتري تلك التصميمات من الخارج ما يتطلب أموال لا يمتلكها، بتلك النظرية وخلال 10 سنوات تمكن من جذب عملاء كثر وتوسعت شركته التي وصلت حد 500 موظف وأصبح العمل كله تحت سيطرته من التصميم حتى البيع.
في 1975 أراد أمانسيو تأسيس شركته الجديدة، و وسط مدينة لاكورنيا وجد متجر مناسب وبجواره مقهى يسمى "زوربا" نسبة إلى الشخصية اليونانية الشهيرة، فأحب الاسم وقرر تسمية شركته "زوربا" لكنه أجرى تعديل طفيف فأصبحت "زارا" التي نجحت بشكل كبير ما دفعه عام 1977 لافتتاح المقر الرئيسي لشركته في المكان نفسه وتزامن ذلك مع تأسيس أول مصنع ملابس خاص به، وسرعان ما تعددت الأفرع في البرتغال ونيويورك وباريس ومكسيكو سيتي حتى وصلت إلى أكثر من 2000 متجر حول العالم وفق صحيفة "الغارديان البريطانية".
على خلاف أثرياء العالم لم يدخل أمانسيو نادي المليونيرات، فبعد أن أسس شركته القابضة "إنديتكس" عام 1985 وضم إليها زارا، لم يكترث سوى بتوسيع نشاطه فأسس علاماته التجارية مثل "بريشكا- بول آند بر- ماسيمو دوتي" واستمر على هذا النهج حتى 2001 حين طرح أنديتكس في سوق الأسهم بمدريد وتم تقديرها بـ9 مليارات يورو ليدخل "ابن الخادمة" نادي المليارديرات مباشرة، وحاليًا تقدر قيمة إنديتكس بنحو 158 مليار دولار وفق آخر إحصاءات يوليو الماضي.
في رحلة الصعود جرب أمانسيو حظه في استثمارات أخرى، خاصة العقارات التي شغف بها إذ بات يمتلك إمبراطورية عقارية موزعة بين لندن ونيويورك وباريس وأخيرا اشترى مبنى ضخم وسط مدينة برشلونة مقابل 250 مليون يورو وفقا لوكالة "بلومبرغ"، بينما تصل قيمة ممتلكاته العقارية في تورنتو الكندية 800 مليون دولار، ومبانيه في لندن تصل إلى 700 مليون دولار.
الملياردير الغامض، وصف التصق بأمانسيو أورتيغا طوال حياته بسبب رفضه المستمر للظهور ودفاعه الشرس عن خصوصيته لدرجة أنه حتى عام 1999 لم تنشر له أي صورة، وأشهر مقابلاته كانت عام 2000 وجاءت بعد ضغط من بورصة مدريد قبل إدراج شركته "إنديتكس" في البورصة، كما أنه رافض للحفلات والمؤتمرات العامة رغم شغفه بالعمل فحتى بعد تقاعده عام 2011 وتولي ابنته مارتا رئاسة إنديتكس، ظل أمانسيو يتابع جودة منتجاته وبات معروف عنه زياراته المفاجئة لتفقد سير العمل.
ضاعف غموض أورتيغا كراهيته للحراس والسيارات الفخمة وتفضيله الملابس البسيطة ومكوثه في بيته بلاكرونيا منذ عقود دون أن يفكر في الانتقال إلى مكان آخر، لكن هذا لا يعني أن الرجل لا يحب الناس، ففي مصانعه اعتاد العمال أن ينادوه باسمه "أمانسيو" لأنه يكره الألقاب كما أنه حريص على التماسك الأسري خاصة مع زوجته الثانية فلورا بيريز التي تزوجها عام 2001 ويحرص دائما على تناول الغداء معها، ومن الطريف أن الشخصية الغامضة التي يبدو الوصول إليها صعبًا، يمكن مقابلتها بكل بساطة في مقاهي لاكورنيا الشعبية حيث يتحدث مع الجيران ويمكن لأي فرد أن ينضم إلى طاولته دون دعوة.